شعار قسم مدونات

الحقيقة والرصاصة!

الزميل المصور سامر أبو دقة المصاب في غزة في محيط مدرسة فرحانة المصدر: شاشة الجزيرة
الشهيد الزميل المصور سامر أبو دقة (الجزيرة)

عين الحقيقة تتتبع تحركاتهم، تسير حيث سار إجرامهم، لتسجل ما كان وما يكون، فتغدو عدوًّا يلاحقهم وخطرًا يتهددهم، إذ تنسف كل دعاواهم وحكاياتهم، وتكشف زيف رواياتهم التي يريدون بها أن يخرجوا على الناس ليقلبوا صورة الجاني والضحية.

يبادر وائل وسامر إلى مهمة لتغطية القصف الإسرائيلي على مدرسة فرحانة في خان يونس جنوبي قطاع غزة؛ وخلال سير عملهم المتتابع يرافقان سيارة إسعاف، كان لديها تنسيق لإجلاء عائلة فلسطينية محاصرة في بيتها بعد استهدافه من قبل طائرات الاحتلال

تغدو الحقيقة كابوسًا يؤرقهم، يفضح أكاذيبهم ويُبطل سحر دعايتهم، ليراهم العالم كما هم، مجرمون قتلة يسفكون الدم وينشرون الخراب.. وأمام هذا الخطر المحدق بهم يأتي القرار بإسكات الحقيقة، فيُطلقون عليها الرصاصة.

والحقيقة كلمة ومشهد؛ كلمة تحكي الجراح والآلام من أحقاد يصبها الصهاينة على أرض غزة وأهلها، ومشهد ينقل للعالم واقعًا حيًّا لما يجري هناك، فيكون المشهد هو الشاهد على حجم الجريمة.. وفي مفترق الزمان وعين المكان كان وائل الدحدوح فارس الكلمة، وأما الأمين على المشهد فكان سامر أبو دقة.

كانت المهمة إنسانية والعمل نبيلًا، وحسب الصحفي ليكون رمزًا للإنسانية وعنوانًا للنُبل، أنه يعيش مع أهل غزة معاناتهم اليومية، ويسعى لنقلها للعالم، لعل المشاعر المتلبدة أن تتنفس، والضمائر الغافلة أن تستفيق، فتوقف المجزرة التي تمضي في شهرها الثالث، تفتك بالبشر والحجر في حرب إبادة عزَّ في التاريخ نظيرها.

في التفاصيل، يبادر وائل وسامر إلى مهمة لتغطية القصف الإسرائيلي على مدرسة فرحانة في خان يونس جنوبي قطاع غزة؛ وخلال سير عملهم المتتابع يرافقان سيارة إسعاف، كان لديها تنسيق لإجلاء عائلة فلسطينية محاصرة في بيتها بعد استهدافه من قبل طائرات الاحتلال.. فريق العمل مع مرافقته للسيارة يقوم بتصوير حالة الدمار الكبيرة التي خلفها القصف الإسرائيلي، ويتمكن من الوصول إلى مناطق لم تصلها أية عدسة كاميرا من قبل، وحتى الطوارئ والإسعاف لم يصلوا إليها.

تمضي ساعات ست، يتواصل فيها نزف سامر، ويتواصل فيها الحقد الصهيوني، يمنعون سيارات الإسعاف من الوصول لإنقاذ الجريح، فإنهم ما أصابوه لينقذوه، بل إن قتله كان مرادهم وغايتهم..

بعد الانتهاء من التصوير يرجع وائل وسامر من المهمة الصحفية سيرا على الأقدام، فمع الدمار الذي خلفه القصف الإسرائيلي لم يعد بمقدور السيارات الوصول إلى تلك الأماكن؛ وفي طريق العودة تترصدهما آلة الإجرام التي لا تريد لمهمتهما أن تتم، فتصيبهما شظايا صاروخ أطلقته طائرة استطلاع إسرائيلية.. يسقط وائل على الأرض، تسقط الخوذة، ويسقط المايك، يستجمع قواه، ثم بالكاد يتمكن من الوقوف.. أما سامر فيبقى ملقى على الأرض، فإصابته بالغة، وجسده ينزف.

يتكئ وائل على جرحه، ويضطر إلى السير شيئا فشيئا، ويشعر بالألم من جرحين، جرح في كتفه وجرح في جسد سامر!. يقطع مئات الأمتار حتى يعثر على رجال من الدفاع المدني الذين ساعدوه، ويطلب منهم العودة لإنقاذ سامر الذي كان يصرخ، لكن المسعفين أخبروه أن عليهم المغادرة لأن الوضع صعب جدا، وسيرسلون له سيارة أخرى.

تمضي ساعات ست، يتواصل فيها نزف سامر، ويتواصل فيها الحقد الصهيوني، يمنعون سيارات الإسعاف من الوصول لإنقاذ الجريح، فإنهم ما أصابوه لينقذوه، بل إن قتله كان مرادهم وغايتهم.. يموت سامر، وتبقى الحقيقة حية تحكي حكايته وحكايات آخرين من السائرين على الدرب.

عاد سامر إلى غزة، ورفض بعد ذلك تركها.. فيقينه أن عدسته يجب أن تبقى عين الحقيقة، ويجب أن تبقى الشاهد على جرائم أعداء الحق والحقيقة، وقد كانت كذلك وستبقى.

أي حقد أعمى هذا الذي يشرب كل هذه الدماء، ثم لا يرتوي؟! إنهم لا يريدون قتل أفراد، بل يسعون لإبادة مجتمع ومُناهم أن يكون ذلك، لكن الأحداث تمضي لتؤكد أنهم سيبقون غارقين في خيباتهم، وأن كل بطشهم وإجرامهم لن يزيد غزة وأهلها إلا إصرارًا على متابعة مسيرة الجهاد والنضال.. لقد نالت آلة الإجرام الحاقدة في أسابيع الحرب الأولى أفرادًا من أسرة وائل، لهم بلا شك زوايا في حنايا قلبه، لكن ذلك لم يُحبط عزيمته، بل إنه سرعان ما عاد إلى الميدان فارسًا أمام هِمَّته تتضاءل الهمم وتصغر الهموم؛ وها هو اليوم وقد أصابه ما أصابه في نفسه وفي رفيق دربه يكشف أن الكاميرا والمادة التي صورها فريق الجزيرة ما تزال موجودة، ويتعهد بأنه سيجمع قواه ويواصل رسالته الإعلامية.

ثم إن العجب كل العجب من سامر أبو دقة، شهيد غزة والجزيرة، يُتاح له الانتقال للعمل في بلجيكا، ليكون مع أسرته في وضع مريح آمن، ويقبل العرض أولًا، لكنه سرعان ما يعيد حساباته، يستخير ويستشير ثم يقرر العودة إلى غزة.. لا بل إنه فوق ذلك يعلن "الخطة أن تعود الأسرة إلى غزة، لا أن أغادر غزة".

عاد سامر إلى غزة، ورفض بعد ذلك تركها.. فيقينه أن عدسته يجب أن تبقى عين الحقيقة، ويجب أن تبقى الشاهد على جرائم أعداء الحق والحقيقة، وقد كانت كذلك وستبقى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.