شعار قسم مدونات

غفلة وسط الأخطار!

رجل إسعاف يساعد أهالي المفقودين في البحث عن جثامين ذويهم في مستشفى شهداء الأقصى وسط قطاع غزة (تصوير ياسر البنا)
المجرمون وقد عجزوا أن ينالوا من رجال المقاومة في غزة مآربهم تحولوا بقذارتهم لينتقموا من كل بشر هناك ومن كل حجر (الجزيرة)

لنا -إن شئنا- أن ننسى أن غزّة في خطر، أو أن شأنها يعنينا.. ولكن هل سنغفل عن حقيقة أننا غارقون في الأخطار؟! وأي خطر أفظع من أن تمشي أجسادنا فوق الأرض، والضمائر موؤودة، والمشاعر مسحوقة، والأحاسيس متلبدة؟ وأي خطر أكبر من أن نكون أمواتا في صورة أحياء؟ بل أي خطر أشد هولا من نغادر الدنيا، وقد دُوِّن في سجلاتنا كلُّ هذا الكم من التقاعس والخذلان؟ فبأي وجه سنلقى الله بعد ذلك؟!.

يتملكني الخوف هذه الأيام كلما خطر لي معنى قول نبينا صلى الله عليه وسلم: "ما من امرئ يخذل امرءا مسلما في موطن يُنتقص فيه من عرضه، ويُنتهك فيه من حرمته، إلا خذله الله تعالى في موطن يحب فيه نصرته، وما من أحد ينصر مسلما في موطن يُنتقص فيه من عرضه، ويُنتهك فيه من حرمته، إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته". وإننا -والله- لو قابلنا هذا المعنى بما نجده على الأرض لكانت النتيجة مريرة وقاسية.

صار مألوفاً يومًا بعد يوم أن نرى عبر الفضائيات صور الجثامين لعشرات الشهداء في ساحات المشافي، وقد تمضي على بعضهم أيام تحول فيها ظروف الحصار والتضييق دون دفنهم.

فوق كل الذي كان منا من خذلان سابق، أخذ يتفاقم بشكل فظيع الواقع المأساوي الذي امتدّ إلى كل مكان في غزة، وتصلنا عن ذلك الأخبار والمشاهد ثم نمضي في الحياة وكأن شيئًا لم يكن!. لقد أكّد وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية مارتن غريفت أنه لا يوجد أي مكان آمن يمكن لسكان قطاع غزة الذهاب إليه، كما أشار إلى أن جميع سكان القطاع، وعلى رأسهم الأطفال والنساء يعيشون في رعب في الشهر الثاني للحرب الإسرائيلية على غزة، مضيفا أنهم "يعيشون في دائرة موت ودمار ومرض".

بتنا نرى المشافي قد تحولت إلى مذابح بشرية تزهق فيها الأرواح تباعا، كان مفترضًا أن تكون ملجأ الجرحى لكنها صارت للجرحى قبورا بعد أن أحكم المجرمون الحصار عليها، صار الجرحى ينزفون حتى الموت بسبب عدم توفر الخدمات الصحية، وبات الموت مترصدا لكل تحرُّك من المشافي أو إليها؛ وتناشد الهيئات الصحية في القطاع العالمَ من أجل وقف المجازر بحق المستشفيات، فلا تجد المناشدة ما كانت تأمله، والمصيبة أنه ليس لنا أن نعتب على العالم، ونحن -الأقربين- من أكثر الناس إعراضا عن أن نسمع النداء أو أن نستجيب.

وقد صار مألوفاً يومًا بعد يوم أن نرى عبر الفضائيات صور الجثامين لعشرات الشهداء في ساحات المشافي، وقد تمضي على بعضهم أيام تحول فيها ظروف الحصار والتضييق دون دفنهم. وفي مكان آخر نرى أنقاض المنازل المهدمة، وطواقم الدفاع المدني تسعى بالوسائل البدائية المتاحة لانتشال جثث الشهداء تحتها، تصل إلى بعضهم وتعجز الإمكانات عن الوصول لآخرين.. ولا يعلم إلا الله كم تُخفي تلك الأنقاض تحتها الآن من جثامين الشهداء.

كأن المجرمين وقد عجزوا أن ينالوا من رجال المقاومة في غزة مآربهم، تحولوا بقذارتهم لينتقموا من كل بشر هناك ومن كل حجر.. يدمرون بلا حدود، ويقتلون بلا قيود، ويمنعون أن تمتد يد المساعدة إلى ضحاياهم، فقد طال بطشهم الحاقد الطواقم الصحية وأطقم الدفاع المدني، ولم يسلم أولئك من آلة قتلهم، ومن الاعتقال والاستجواب مع استخدام التعذيب والتجويع.

أحقيقي أننا لا نستطيع إلا الدعاء؟ أمعقول أننا قادرون على الاحتشاد في تجمعات مليونية في الساحات للتصفيق لكلمة سيلقيها الزعيم، في حين أننا نعجز عن استنفار هذه الطاقات الهائلة لتفعل شيئا ما في مواجهة هذه الكوارث والمآسي؟

هذا بعض ما عند أهل غزّة، فماذا عندنا؟.. عندنا تتابع الحياة سيرها المألوف، نعيش حياة طبيعية، نهنأ بما نأكل ونشرب، ونلهو ونعبث، وننام ملء الجفون، وإذا ذُكِّرنا بأناس إلى جوارنا يتجرعون آلاما تفوق الوصف، تُصبِّحهم وتُمسِّيهم، تمتمنا لإسكات من يريد التشويش على مسار حياتنا بكلمات فيها ألفاظ الدعاء، ولكن غابت عنها روحه وحقيقته.

تحضرني هنا كلمات سمعتها منذ أيام في تسجيل مضت عليه سنوات للشيخ صلاح أبو إسماعيل، يبدو أنه واكب في حينه واحدة من الحملات الصهيونية المتتابعة على فلسطين وأهلها، وفي التسجيل يقول: "لا تدعوا لغزة.. لا تدعوا للمجاهدبن، لأن الدعاء لا يُستجاب لكم"!.. تبدو الكلمات غريبة، لا سيما وأنها تصدر عن شيخ جليل يعي ما يقول، وتزول الغرابة إذ نسمع تمام كلامه، وفيه الطلب ألا ندعو إذا صار الدعاء عندنا بديلا عن الواجب الشرعي في التحرك، فالدعاء بهذا المعنى القاصر يعطينا الرضى المُزيَّف، إذ يُشعرنا أننا أدينا ما علينا؛ وإنما الدعاء الحق هو الذي يكون قرين العمل وملازما له، وهو الذي كان مع المجاهدة في فعل من قال الله فيهم: {ولمَّا برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربَّنا أفرغ علينا صبرًا وثبِّت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين} [سورة البقرة: 250]. وسواء وافقنا الشيخ تماما أم رأيناه قد بالغ، فإننا لن نستطيع أن ننكر ما في قوله من وجاهة.

وإن لنا أن نتساءل: أحقيقي أننا لا نستطيع إلا الدعاء؟ أمعقول أننا قادرون على الاحتشاد في تجمعات مليونية في الساحات للتصفيق لكلمة سيلقيها الزعيم، في حين أننا نعجز عن استنفار هذه الطاقات الهائلة لتفعل شيئا ما في مواجهة هذه الكوارث والمآسي؟ شيئا ما سيولد ونراه حين تحمل قلوبنا الهم والحُرقة، ونعي وندرك أننا مسؤولون.

سيسجل التاريخ أننا عشنا في زمان فتك فيها الأوباش بغزة وأهلها، وسيسجل التاريخ ما فعلناه إذ ذاك.. والأهم أن هذا سيأتي مسجلا في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وبه سنفِد على خالقنا وبارئنا؛ فهل ننقذ أنفسنا قبل فوات الأوان؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.