شعار قسم مدونات

الإبادة الجماعية للفلسطينيين والعاقبة المشؤومة للإسرائيليين

مقاتلو القسام يتصدون للقوات المتوغلة في محوري شمال وجنوب مدينة غزة ويدمرون عدداً من الآليات من صفحه القسام على تيليجرام
مقاتلو القسام يتصدون للقوات المتوغلة في محوري شمال وجنوب مدينة غزة ويدمرون عدداً من الآليات (صفحه القسام على تيليجرام)

ذات يوم، أشاع قادة نظام الخمير الحمر في كمبوديا أن الولايات المتحدة بصدد مهاجمة العاصمة بنوم بنه ومدن رئيسية أخرى بالسلاح النووي، ذلك أن الرأسمالية البرجوازية الغربية المتوحشة تريد القضاء على النموذج الشيوعي الرائد في كمبوديا، وهو النموذج الذي أراد له الأخ الأكبر (بول بوت) القفز على مرحلة الاشتراكية في موطن ميلاد ثورتيها في روسيا والصين.

بذريعة القصف النووي المرتقب أجلي ملايين البشر في 17 أبريل/ نيسان عام 1975م من العاصمة الكمبودية والمدن الأخرى، لكنهم لم ينعموا بالشيوعية الموعودة، فعلاوة على من ماتوا من التشريد، وأعمال السخرة في الحقول، انتشرت ما تعرف بحقول القتل، وعاشت كمبوديا أسوأ نماذج الإبادة الجماعية المسجلة في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية.

فظاعة المذابح التي ارتكبها نظام الخمير الحمر بحق سكان كمبوديا، من أجل صناعة أول نموذج شيوعي نقي، ضاقت به صدور كثير من قادة النظام نفسه، فانشق بعضهم بما لديهم من قوات، واختفى آخرون بين أدغال الغابات الاستوائية، ولجأ آخرون إلى دول الجوار الاشتراكية.

أحرجت عمليات التطهير العرقي رعاة نظام (جمهورية كمبوتشيا الديموقراطية) في الدول الاشتراكية المحيطة بها لا سيما الصين وفيتنام، وقلبت الدولتان المجن لنظام بول بوت، بل إن فيتنام الاشتراكية أرسلت قواتها لتحرير شعب كمبوديا من رفقاء السلاح والدم، والوقوف إلى جانب القوات المنشقة عن الخمير الحمر.

جوبهت استراتيجية التهجير القسري الإسرائيلية الصاخبة للفلسطينيين برفض دول الجوار، وهي الدول التي يسود انطباع واسع بأن سلطة الاحتلال تتكئ عليها لضمان أمنها

واليوم، تعيش فلسطين سيناريو كمبوديا سبعينات القرن الماضي نفسه، والذي أعقب حقبة طويلة من الاستعمار الفرنسي، استمر نحو 90 عاما.

فمن أجل دولة يهودية نقية لم يبق للاحتلال إلا التلويح بقنبلة نووية لترويع الفلسطينيين، وهو يمارس حرب إبادة قد تكون أفظع من تلك التي مارسها الخمير الحمر في كمبوديا في سبعينيات القرن الماضي، فاستنساخ التهجير القسري على وقع الترويع النووي تبدو سياسية واقعية لدى مجتمع قام على أساس الإحلال وليس مجرد احتلال عسكري قمعي أو استعماري لأهداف اقتصادية أو للسيطرة على موقع استراتيجي فحسب.

جوبهت استراتيجية التهجير القسري الإسرائيلية الصاخبة للفلسطينيين برفض دول الجوار، وهي الدول التي يسود انطباع واسع بأن سلطة الاحتلال تتكئ عليها لضمان أمنها، وتراجعت القوى الغربية الراعية للكيان المحتل عن دعم أحلامه بتفريغ الأرض، وأحبَط الفلسطينيون بمقاومتهم المسلحة وصمود شعبهم الأعزل خطط التهجير المبيتة.

يتواصل مسلسل الإبادة الإسرائيلية بآلة القتل الامريكية، وتتواصل معه أزمة انفصام بنيوية لدول الطوق المحيطة بفلسطين، ولا تفلح الخطابات العصماء وذرف الدموع من قبل قادة دول مطبعة بالتهدئة من روع شعوبها، إذ إن الدم لا يصبح ماء، ولا يمكن فصل مياه النهر بالعصا، بذريعة حماية حدود مصطنعة.

ويعزز حرج موقف دول التطبيع ضغط دول رديفة قريبة أو بعيدة بضرورة اتخاذ موقف أكثر حزما تجاه الاحتلال، وبادر بعضها إلى إعلان حالة الحرب مع دولة الاحتلال، على الأقل من حيث المبدأ، وأبدت قوى أخرى جاهزيتها لتدخل عسكري عندما تسمح لها الفرصة.

أزمة أخلاقية أخرى لدول بعيدة راعية كيان الاحتلال منذ ما قبل تأسيسه، وطالما تغنت أمام شعوبها بمبادئ وقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتوقعت منه مشاركتها القيم نفسها، لكن الشراكة بدأت تنفض خلال الأعوام القليلة الماضية، وظهر أثر تفكك الشراكة في انقسام المجتمع الإسرائيلي على نفسه.

يتسع الخرق الإسرائيلي على الراقع الغربي مع كل يوم يمر من حرب الإبادة، لا أقل من هذا الوصف، ولن يكون بإمكان قوى الانفصام الديمقراطي والنفاق الغربي الاستمرار في ستر سوءات احتلال غير قانوني يمارس أبشع أنواع القتل أمام أعين جميع الشر.

لقد اكتشفت شريحة مهمة من مفكري الغرب ومثقفيه أن إسرائيل التي أرادها ليست هي الموجودة اليوم، فهي تمارس العنصرية بين شعبها شرقيين وغربيين، علاوة على ممارسة فصل عنصري أكثر وضوحا، بل أسوأ من نظام الأبارتايد البائد في جنوب إفريقيا، وعززته تصريحات قادة الاحتلال بوصف الشعب الفلسطيني حيوانات بشرية.

وإذا كانت القوى الغربية قد أعطت الاحتلال ما يكفي من الوقت لتحقيق مآربه بالتهجير، وأطلقت يديه قتلا وتنكيلا بدعوى الدفاع عن النفس، فإن عكس المقصود بدأ يتحقق مع كل يوم يسقط فيه أطفال ونساء في غزة بآلة الحرب الأمريكية، وكشف القصف الإسرائيلي الهمجي للعالم الغربي الكذبة التي صدقها بعدم وجود شعب في هذه الأرض.

ويتسع الخرق الإسرائيلي على الراقع الغربي مع كل يوم يمر من حرب الإبادة، لا أقل من هذا الوصف، ولن يكون بإمكان قوى الانفصام الديمقراطي والنفاق الغربي الاستمرار في ستر سوءات احتلال غير قانوني يمارس أبشع أنواع القتل أمام أعين جميع البشر.

ولن تنتظر شعوب كثيرة لحين توثيق الأدلة ورفعها للمحاكم الدولية، لا سيما الشعوب العربية والمسلمة التي تصنف هيئات القضاء الدولي في خانة النفاق الغربي، مثلها مثل الأمم المتحدة وقراراتها التي لا تنفذ إلا بما يخدم أجندة القوى الكبرى في العالم.

تبدو الولايات المتحدة الآن تستبق الأحداث وهي تتحدث عن ترتيبات ما بعد حماس في غزة، وهناك من يطالبها بالتريث ولعل الحديث الأصح أن يكون عن ترتيبات ما بعد إسرائيل

وحتى لا تتسع الهوة بين الشعوب والحكومات، المتهمة أصلا بخذلان القضية الفلسطينية وضياع المقدسات، فإن عليها أن تتصرف، وتفعل شيئا، وأي فعل مهما كان صغيرا يصب ملحا على جرح إسرائيل الغائر منذ عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/ تشرين أول.

وكما لم يتحمل جيران كمبوديا الاشتراكيين جرائم النظام الذي صنعوه في سبعينيات القرن الماضي، وتخلى عنه رعاته البعيدين مثل الاتحاد السوفييتي، فإن جرائم إسرائيل المستمرة لن يتحملها جيرانها الذين قبلوها على قاعدة مجبر أخاك لا بطل، وستفاقم من حرج الأنظمة الغربية مع اتساع دائرة الوعي بالقضية الفلسطينية والمطالب بإنصاف الشعب الفلسطيني.

تبدو الولايات المتحدة الآن تستبق الأحداث وهي تتحدث عن ترتيبات ما بعد حماس في غزة، وهناك من يطالبها بالتريث ولعل الحديث الأصح أن يكون عن ترتيبات ما بعد إسرائيل، التي تجر بجرائمها العالم لعداوتها والمطالبة بجرجرتها في محاكم جنائية دولية أو حرب إقليمية تفقدها مبرر وجودها باعتبارها دولة وظيفية وقاعدة عسكرية غربية متقدمة في غرب آسيا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.