شعار قسم مدونات

فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا

مظاهرة حاشدة لدعم القضية الفلسطينية وللتنديد بالعدوان الإسرائيلي على غزة في العاصمة الإندونيسية جاكرتا (رويترز)

إنها لأيام مريرة ولحظات صعبة، تتقطع لها الأنفاس وتعتصر لها القلوب، مشاهد موجعة تقض مضجعنا وتؤرق ليلنا وتصد عنا كل رغبة في ممارسة الحياة، لا يمنعنا عن الاستمرار إلا إيماننا بوعد الله لنا في الدنيا والآخرة بأن الله ناصرنا وجابر خواطرنا ومشفي صدورنا، وأنه قد أعد لضيوفه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

لا ندري متى نصر الله لكنا نؤمن أنه واقع متحقق كما أن الألم اليوم واقع متحقق، ولم يأمرنا الله تعالى بتحقيق النصر وإنجازه إنما أمرنا بالأخذ بالأسباب وبالصبر والمصابرة

متى نصر الله

ما تغير وجه التاريخ إلا بعد مخاص أليم وولادات عسيرة، وما دارات الأيام وصارت دولا إلا بعزم المخلصين وثباتهم وتضحياتهم، ولم تأت الانتصارات العظيمة إلا من رحم المعاناة المريرة.

لا ندري متى نصر الله لكننا نؤمن أنه واقع متحقق كما أن الألم اليوم واقع متحقق، ولم يأمرنا الله تعالى بتحقيق النصر وإنجازه إنما أمرنا بالأخذ بالأسباب وبالصبر والمصابرة، بالبذل والعطاء والعمل، بالتوكل عليه والالتجاء إليه، أما النصر فسواء رأيناه أم لا فإنه قريب.

خلق الإنسان ضعيفا

تحار نفوسنا مع كل هذه الدماء المسكوبة والقلوب المكلومة، وتضعف عزائمنا أمام هول المصيبة، من يرد للأم وليدها، من يعيد للأبصار ضيائها، من يجمع للأسر شملها ومن يعيد للبيوت أهلها، إنه لثمن فادح حقا، وفي واقع الأمر لا شيء في الحياة يمكن أن يجبر الكسر الحاصل ولا أن يشفي الألم الذي ملأ الصدور، ولحرمة دم المسلم أعظم عند الله من بلده الحرام ولدعاء مظلوم أثقل عند الله وزنا من ملء الأرض ذهبا، لكن الله يصطفي من عباده من شاء لما شاء، ويهيئ الأسباب لقدره، وقد أعد الجنة نزلا وقرارا كريما لمن اصطفاه، والنار سعيرا لمن عاداه وعصاه، ليس لنا إلا الدعاء أن يربط على قلوبهم ويجبر كسرهم، وأن نسعى بكل قوتنا وإمكاناتنا لرفع الظلم عنهم كل بما وهبه الله تعالى واستعمله في مكانه.

الخيبة الكبرى

تمر بخاطري حادثة صلح الحديبة لقد كانت في حسابات البشر الآنية لحظة خيبة كبرى، فقد خرج المسلمون يسوقون الهدي محرمين مستبشرين برؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم سيدخلون البيت الحرام معتمرين، والشوق يغمر أفئدتهم، بعد أن فصلت السنون بينهم وبين بلدهم الذي تركوه حبا لله ورسوله، في مشهد دار برؤوسهم كالحلم المعجز القريب، إذ كيف يدخل المسلمون مكة آمنين رافعين أصواتهم بالتوحيد في شموخ وعزة وأمان، ولم يمض على غزوة الأحزاب التي اجتمع فيها ما يزيد عن عشرة آلاف مقاتل، لاستئصال شأفتهم، أكثر من عام واحد، خيب الله فيها مسعى المشركين وردهم على أعقابهم، واليوم يبشرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يجبر خاطرهم ويشفي فؤادهم ويعلي عزهم.

خرج المسلمون والأمل يغمر قلوبهم وحلم العودة يداعب جنانهم ومقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يبدد مخاوفهم ويثبت أقدامهم، وبعد أن أحرموا جميعا متهيئين للدخول بلغهم نبأ منعهم وصد المشركين لهم عن بيت الله الحرام وبعد أن كان ما كان من مفاوضات ومداولات بين رسول الله والمشركين بدأت كتابة الصيغة النهائية لما اصطلح عليه رسول الله مع أعداءه، لقد كانت البنود موجعة للمسلمين صادمة لكثير منهم فأول بند نص على منع دخول المسلمين عامهم هذا بيت الله الحرام على أن يدخلوا عامهم المقبل! كيف يرجعون وقد تهيأت النفوس للقاء وامتلأت يقينا ببشرى رسول الله! تضاعف الألم عندما منع رسول الله من كتابة التوحيد واثبات النبوة في نص المعاهدة وقد كانوا يحلمون بأن يصدحوا بها مزلزلة في أرجاء مكة لكنهم الآن يمنعون حتى من كتابتها.

لقد أحيت فينا هذه الآلام روابط الأخوة في الأمة وأيقظت جذوة الانتماء التي خبت بالنفوس، وربت أبناءنا على نماذج حية من البطولة والتضحية وزرعت فيهم بذور الغيرة، وعرفت عدد كبيرا من الناس على الحق وأصحابه

وأكثر من ذلك فقد نصت المعاهدة على بند مخيب آخر (فمن أتى محمدا من قريش من غير إذن وليه -أي هاربا منهم- رده عليهم، ومن جاء قريشا من محمد -أي هاربا منه- لم يرد عليه) وبلغ الألم ذروته حين جاء أبو جندل ابن سهيل ابن عمرو هاربا مستجيرا بالمسلمين يطلب حمايتهم ونصرهم، فلما رأى سهيل ابنه أبا جندل قام إليه فضرب وجهه وأخذ بتلبيبه أمام المسلمين، ثم قال: يا محمد قد لجت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا. قال رسول الله: صدقت فجعل ينثره بتلبيبه ويجره إليه ليرده إلى قريش، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين، أأرد إلى المشركين يفتنوني في ديني؟! فقال رسول الله: يا أبا جندل اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا، وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله، وإنا لا نغدر بهم.

لقد كانت هذه اللحظات واحدة من أشد اللحظات حرجا على المؤمنين ومن أعظم الاختبارات التي مرت عليهم، من الله فيها على المؤمنين بتمام الطاعة، ثم أكرمهم بثمار الفتح المبين، بعد أن حجبت عن أبصارهم أقدار الله وخيره الذي ساقه لهم في واقعة الصلح العظيمة.

منح المحن

لقد أحيت فينا هذه الآلام روابط الأخوة في الأمة وأيقظت جذوة الانتماء التي خبت بالنفوس، وربت أبناءنا على نماذج حية من البطولة والتضحية وزرعت فيهم بذور الغيرة، وعرفت عددا كبيرا من الناس على الحق وأصحابه، ووهبتنا دروسا وعبرا عظيمة، وساقت القلوب للانكسار بين يدي الخالق جل وعلا، وأعادت تذكيرنا أننا في دار اختبار لا دار قرار

وهكذا هي المحن كما تسلب منا فإنها تهبنا (فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا) (النساء 19).

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.