شعار قسم مدونات

سِقط الزَّندِ وشروحُه

ضريح أبي العلاء المعري
ضريح أبي العلاء المعري (وكالة الأناضول)

من أجل آثار أبي العلاء المعري، ديوانه سقط الزند، وهو شعره الذي قاله في شبابه. والسقط هو الشرارة الأولى التي تسقط من قدح القادح بالزند، وهذا من معجم إيقاد النار في اللغة العربية، فالقادح هو الذي يحك العود بالعود كي يوقد النار، والعود الذي يقدح به هو الزند، وحين يحك العود بالعود ليوقد النار تسقط شرارة أولى اسمها السقط (أو السقط أو السقط كل ذلك صحيح)، فشبه أبو العلاء باكورة شعره أو شعره في شبابه، شبهه بباكورة اشتعال النار التي هي السقط، لأن الشباب هو أول العمر كما أن السقط هو أول اشتعال النار.

شرح التبريزي للسقط هو شرح شديد الاختصار كعادة التبريزي في شروحه، فمذهب التبريزي في الشرح أن يكون الشارح شديد الإيجاز حتى لا يمل القارئ، وكانت تلك عادته رحمه الله حتى ليخيل إليك أنه يتكاسل أحيانا فيختصر أكثر من اللازم.

وقد افتتح أبو العلاء ديوانه سقط الزند بخطبة هي من أبلغ ما افتتحت به الكتب، وفيها من الضراعة إلى الله والاعتراف بالتقصير والاعتذار عن الخطأ ما يرق له القلب وتدمع له العين، وأنا أنصح بتحفيظها للأطفال وإدخالها في مناهج الدراسة المبكرة، فهي قليلة الكلمات عظيمة الفائدة، وفيها من نبيل الكلام ومعالي البلاغة ما ينمي ملكة الطفل ويهذب عقله ومنطقه.

ديوان سقط الزند هذا له شروح كثيرة، منها شرح أبي العلاء نفسه المسمى: "ضوء السقط" لكنه شرح غير واف بالإضافة إلى أن أبا العلاء لم يكن يحب شرح شعره في شبابه، لأنه كان يعتبره شعرا فيه صبابة وتكبر وغطرسة، فهو غير راض عنه إطلاقا.

ومن شروح سقط الزند: شرح التبريزي (تـوفي 502 ه) وهو أقدم الشروح بعد شرح أبي العلاء، فالتبريزي كان تلميذا لأبي العلاء وروايته هي أضبط روايات الديوان، لأنه روى الديوان عن أبي العلاء مباشرة. لكن شرح التبريزي للسقط هو شرح شديد الاختصار كعادة التبريزي في شروحه، فمذهب التبريزي في الشرح أن يكون الشارح شديد الإيجاز حتى لا يمل القارئ، وكانت تلك عادته رحمه الله حتى ليخيل إليك أنه يتكاسل أحيانا فيختصر أكثر من اللازم.

ومن شروح سقط الزند شرح ابن السيد البطليوسي (تـوفي 521 هـ) وهو بخلاف شرح التبريزي شرح فيه من البسط والإسهاب الكثير، وقد أجاد فيه البطليوسي غاية الإجادة حتى اعتبره بعض أهل الأدب أحسن شروح السقط على الإطلاق.

ومن شروح سقط الزند أيضا شرح الخوارزمي (توفي 617 هـ) والخوارزمي إسناده متصل إلى أبي العلاء، فقد قرأ الديوان على ابن المطرزي، وابن المطرزي قرأه على أبيه، وأبوه قرأه على أبي المكارم الأبهري، وأبو المكارم رواه عن أبي العلاء المعري مباشرة. ويعتبر شرح الخوارزمي هذا أيضا من أوفى الشروح وأفضلها.

شروح سقط الزند الثلاثة هذه: شرح التبرزي، وشرح البطليوسي، وشرح الخوارزمي، حققتها -مجتمعة- لجنة إحياء آثار أبي العلاء

والخوارزمي هذا هو الذي كان يلقب بصدر الأفاضل وقد قتله التتار عام سبعة عشر وستمائة ه وهو قائل البيتين المشهورين:

يا زمرة الشعراء دعوة ناصح .. لا تأملوا عند الكرام سماحا

إن الكرام بأسرهم قد أغلقوا .. باب السماح وضيعوا المفتاحا

شروح سقط الزند الثلاثة هذه: شرح التبرزي، وشرح البطليوسي، وشرح الخوارزمي، حققتها -مجتمعة- لجنة إحياء آثار أبي العلاء بتحقيق الخماسي: مصطفى السقا، عبد الرحيم محمود، عبد السلام هارون، إبراهيم الإبياري، وحامد عبد المجيد، وأشرف على عملية التحقيق طه حسين رحم الله الجميع.

وإليك هذه المقتطفات اللطيفة في خطبة سقط الزند التي ذكرت لك آنفا، حيث نبيل المعاني، وبليغ الكلام، وفصيح العبارة:

"أما بعد، فإن الشعراء كأفراس تتابعن في مدى، ما قصر منها لحق، وما وقف ليم وسبق"، إلى أن يقول: "والشعر للخلد مثل الصورة لليد، يمثل الصانع ما لا حقيقة له، ويقول الخاطر ما لو طولب به لأنكره".

فانظر إلى شرف المعاني في هذه الخطبة الجليلة، التي تستحق أن تحفظها الأجيال وتعيها وتثقفها، فمثل هذه النماذج معين على إحياء اللغة العربية ونشر حبها في النفوس.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.