شعار قسم مدونات

تلك هي الحرب.. وتلك تداعياتها في ألمانيا!

الصحف الألمانية لفتت إلى أن برلين شهدت مظاهرات منددة بقرار ترمب لم تشهدها أي عاصمة أو مدينة أوروبية أخرى. الجزيرة نت
برلين تشهد مظاهرات حاشدة تندد بمجازر الاحتلال الإسرائيلي على غزة (الجزيرة)

هل يتخثر الدم في عروق الحياة؟ نعم عندما تصاب أيامنا بسكتة الدهشة ممزوجة بغمرة من الحزن، فالزمن هذه الأيام يسير نحو الأسوأ فاقدا شيئا من بريقه بحكم الأخبار اليومية التي تكثفها الأحداث الواقعة في فلسطين فتدفعنا نحو الصلاة في المساجد والكنائس لعله يعيد للحياة بعضا من ألقها حين يستدعي البشر هناك من مخازن أرواحهم ذاك الأمل بالدعاء لتلميع الواقع المفجع.

هكذا تفعل ذاكرة كل عربي المصابة في الآونة الأخيرة بصدأ الحرب وصريرها، يتخذون إجراء عملية صيانة ذهنية مستدعية لصور الماضي الكفيلة بتزييت الحاضر أو تزيينه، فما أدراك ما الماضي!!

أعادت الحرب الإسرائيلية على غزة اليوم التذكير بفلسفة أنانية الإنسان ونزعة التوحش وهي منبع الشرور في العالم

حين كان العربي فخورا بعروبته المنحوتة منحوتة في كل قلب من أبناء خمس وعشرين بلد عربي، منها عواطف ومنها ذكريات، أما اليوم ترانا نفتش عن ضحكاتنا التي انسكبت على أرصفتها الدم بلا حساب، وبتنا في الأماكن دوما نعثر على ما يدلنا إليها من خلال رائحة الجثث المتزايدة يوما بعد يوم.

في هذا الخريف أتت لحظات عابسة على عتبات البيوت أصبح الرجوع لربيعها حلما، فالإنسانية غادرت إنسانيتها الدافئة بفعل بشري ممنهج، كل شيء فيها يقف على حافة الهاوية، يصبح فيها الإنسان بلا عواطف أو بلا روح ولا لهفات ولا حنين للأبطال العائدين من الحروب السابقة.

أعادت الحرب الإسرائيلية على غزة اليوم التذكير بفلسفة أنانية الإنسان ونزعة التوحش وهي منبع الشرور في العالم، فلماذا تسمى تلك النزعة بالحيوانية رغم أن الإنسان قدم نماذج فائقة على امتداد الحضارة البشرية في الإبادة والقتل الجماعي والمجازر وهو مالم تفعله الحيوانات في الغابات؟!، لماذا عادت الحرب تلوح بأقصى ما أنتجه العقل المدمر من عتاد في منطقة يفترض أنها تعلمت الدرس على جلدها وروحها التي أصيبت بجرح غائر يوم قتلت الكثير من شبابها في آخر حروبها وتركت ملايين اليتامى وملايين الثكالى حتى يومنا هذا؟!.

بهذه المقدمة ألخص لكم النظرة العامة لتلك الفاجعة وما يدور بسببها من أحداث في ألمانيا، سواء من الشعب أو الحكومة.
وما أن تعمقنا في الرؤية لذاك الملخص وبداية على الجانب الحكومي الألماني نرى أن الشرطة تمنع نتيجة الأحداث الراهنة في فلسطين أي مظاهرات غير مرخصة حكوميا للفلسطينيين نظرًا لتجارب الماضي فإن هناك خطرًا من حدوث هتافات معادية للسامية وتحريض على العنصرية وتمجيد للعنف والأعمال العنيفة.

وتم تأكيد ذلك من خلال كلمة وزيرة الخارجية أنالينا بيربوك في نيويورك حيث أكدت أن كل حياة لها الثمن ذاته وكل النفوس قيمتها متساوية، المعركة ضدَّ حماس وليست ضدَّ المدنيين، ولهذا السبب من المهم للغاية بالنسبة للحكومة الألمانية أن يتم خوضها بما يتماشى مع القانون الإنساني ومع أكبر قدر ممكن من مراعاة الأهالي المدنيين، وأضافت أنَّ "حياة جميع المدنيين لها نفس القدر من الأهمية".

أما كلمة نائب المستشار الألماني روبرت هابيك الموجهة للمسلمين في ألمانيا في الثاني من نوفمبر الحالي فقد أتت ببداياتها عن موضوع السامية وان العديد منهم يعاني وخائف من إظهار ديانته ومعتقداته تخوفا من المجتمع أو بعض من الناس، منهم من منع ذهاب أطفاله الى المدرسة ومنهم من توقف عن العمل أو زيارة الأماكن الرياضية وغيرها.

وانتقد بنفس الوقت المنظمات الإسلامية الموجودة في ألمانيا بسبب عدم إفصاحها عن توجهها السياسي سواء كانت ضد معاداة السامية أم لا وما رأيها تجاه الحرب على غزة.

أما عن الجالية العربية فقد تكلم عن المقارنة وقال تحديدا: إن العرب لهم الحق منا في الدفاع عنهم ضد اليمين المتطرف هنا، لذلك يتوجب عليهم أيضا الاعتراف بحق غيرهم (المقصود الجالية اليهودية). فلا مكان لعدم التسامح الديني في ألمانيا، وإن الدستور الألماني يحمي ويعطي الحقوق وكذلك يلزم بالواجبات للجميع.

أما عن حزب اليمين المتطرف المعادي للمهاجرين عموما والإسلام خصوصا فهم منسحبون حاليا لأسباب أراها تكتيكية وبهدف التحريض على المسلمين هنا فيما بعد واستغلال هفوات الشباب العربي من غضب وكراهية لليهود وخاصة في برلين معقل الجالية الإسلامية.

إن الطلاب الفلسطينيين يواجهون كذلك وضعاً خاصاً في ألمانيا، إذ يشعرون بأنهم لا يستطيعون التعبير عن أنفسهم ولا يستطيعون التجمع معًا.

أما المجتمع الألماني الأصل ينظر إلى دعم إسرائيل على أنه شرط أساسي لهوية ألمانية جماعية حديثة البناء. في حين أن درجة من الحساسية تجاه إسرائيل تبدو مفهومة بالنظر إلى تاريخ ألمانيا الوحشي المعادي للسامية، فقد أصبحت القضية أكثر إشكالية اليوم. ويتعرض الفلسطينيون والفنانون وأمناء المعارض للتوبيخ أو الطرد أو إلغاء معارضهم الفنية بشكل منظم، من قبل ما يسمى بالجنوب العالمي، والإسرائيليين اليساريين، بسبب آرائهم حول السياسات الإسرائيلية التي تعتبر غير مستساغة.

على جانب المواطنة هنا وتحديدا في أكاديمية (بارينبويم-سعيد) الموسيقية بألمانيا يدرس طلاب إسرائيليون وفلسطينيون معا قبيل فصل الدراسة الجديد والحرب في أشدها، يقول بارينبويم: إن الطلاب اليهود الإسرائيليين يشعرون من جانبهم بالقلق إزاء تزايد معاداة السامية في برلين ويضيف في الوقت نفسه إن الطلاب الفلسطينيين يواجهون كذلك وضعاً خاصاً في ألمانيا، إذ يشعرون بأنهم لا يستطيعون التعبير عن أنفسهم ولا يستطيعون التجمع معًا.

يشير بارينبويم إلى الحظر الذي فرضته برلين على مجموعة من المظاهرات الداعمة للفلسطينيين المحاصرين في قطاع غزة وتخشى السلطات في العاصمة الألمانية من جهتها أن تتضمن المسيرات شعارات معادية للسامية أو تحريضاً على معاداة إسرائيل، لهذا الغرض ترى الأكاديمية ضرورة أن توّفر مكاناً آمناً للطلاب حتى "يمكنهم الاستمرار في التعبير عن أنفسهم بثقة وحرية وأن يثقوا بأن لديهم فضاءً يمكنهم أن يكونوا فيه معاً.

وأعذروني بإطالتي عليكم الكلام من ازدراء الحكومة ونظرة الشعب، أود أن أختم النهاية برأيي الخاص والمتواضع خبرة عن الحروب، فهذه الحرب ستتوقف يوما وبكل تأكيد فهناك المساعي القطرية والمصرية مازالت مستمرة لكنها ستخلف بعد إيقافها كوارث كبيرة بدايتها النزوح والفقر من الدمار الحاصل، وجميعنا يعلم أن الدمار هو أبو الأزمات والعنف، ربما سنرى مواثيق دولية من توافق واعتراض من البلدان العربية لكن على الأرجح لا أحد سيشارك في الإعمار وتحديدا في غزة وحتى إن ابدى مشاركته فستكون محدودة جدا نظرا للدمار المحدث والذي يحتاج لسنوات طويلة في البناء، ستتوقف الحرب وسيتفق الطرفان على الشروط نفسها التي لو تمت في ظل هذه المراوحة العصية على الكسر وعدم القدرة على الانتصار سيقول القادة إنها كانت حرب التحرير التي نزفت كثيرا، نعم تلك هي الحرب وهذا هو عالمها والأبرياء دومًا هم وقود شراستها ومصالحها ولا متسع لعواطف أو دموع أو حتى ذكريات أمام همجية البشر وجنون الحروب.. نعم تلك هي الحرب التي أوصلت الأمر بالإنسان إلى الوقوف على أهبة الاستعداد لاقتراف أي نوع من أنواع الشرور إذا قيل له إن الله يبارك الجريمة.

فلو أن الأديان وبكل طوائفها حثت أتباعها على طلب الحضارة الإنسانية بدلاً من أن تأمرهم بازدراء ما يجب أن يؤمنوا به كوجبات جاهزة لكانت فلسطين بالذات مكانا لأرقى البشر.. رفعت الأقلام وجفت الصحف.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.