شعار قسم مدونات

وائل الدحدوح.. ذاكرة المقاومة ورسول الشهداء

الدحدوح كان في موقعه الميداني يقوم بالتعليق على غارة يشنها الاحتلال أمام عدسات التصوير حين تلقى خبر استشهاد عائلته على الهواء (الفرنسية)

تغير العُرف الفضائي مع قناة الجريرة، التي أخذتْ على عاتقها نهجا جديدا للبث لم تسبقها إليه أية فضائية أخرى، بحيث فتحت البث الحي والمباشر على مدار الساعة لنقل الأحداث وتغطية التطورات أولا بأول ودون انقطاع، حتى مع أي انحراف مفاجئ أو غير متوقع في سياق الوقائع التي تتبدل وتتغير على أكثر من صعيد وفي أكثر من جبهة مهما اختلفت ظروفها وملامحها وخصوصيتها.

لقد تحررتَ من كونك مُجرد مشاهد، وارتقتْ بك عين الجزيرة إلى مرتبة أسمى من مستوى النظر، إنها مرتبة الشهادة، وهذه أبلغ وأعظم

فضاء الجزيرة يكاد يكون الفضاء الوحيد الذي يستطيع استيعاب كل هذا بجهوزية تامة، واستعداد احترافي، وتلبية فورية وعميقة لكل التداعيات المستجدة والمنقولة على الهواء مباشرة، بحيث يتوزع البث عبر شاشات مصغرة، يحتل المشهد الأكثر سخونة بينها- وسط الشاشة أو المساحة الأكبر مقارنة ببقية المشاهد، مع تمرس بليغ باستدعاء الضيوف والأسئلة وفريق العمل الجاهز لالتقاط الحدث وإدارة التغطية بذكاء وشفافية وإعداد مُحكم.

لا شك أن الرؤية الفكرية بالتعامل مع التغطيات الإعلامية الحية، تنبع من تمكن تقني وعمق فلسفي، توفرت له كافة الإمكانيات والطاقات والخبرات، يرفدها منهج أخلاقي نزيه وعقيدة احترافية صارمة، ترصد وتوثق لكل التفاصيل التي تصل إليك مباشرة وعلى الهواء، ما خلق تناغما عاما ومرونة فذة بين عناصر التفوق والإبداع.. وحشد نخبة النخبة من المفكرين والعلماء والمؤرخين والمحللين السياسيين والعسكريين والمعلقين من مراسلين ميدانيين أو صحافيين، أو عاملين في السلك الدبلوماسي أو غيرهم من مسؤولين أو نشطاء منظمات وجمعيات لحقوق الإنسان واللاجئين والأطباء والهيئات الدولية، بالإضافة إلى فريق مبهر للترجمة الفورية بأهبة حاضرة ومتوثبة. فأين أنت كمشاهد من كل هذا؟ وما هو دورك من هذا الحراك الثوري في مسيرة الإعلام؟

بصراحة لم يعد لك دور، وبتعبير أكثر وضوح، لقد تحررتَ من كونك مُجرد مشاهد، وارتقتْ بك عين الجزيرة إلى مرتبة أسمى من مستوى النظر، إنها مرتبة الشهادة، وهذه أبلغ وأعظم.. ما دام مقام الارتقاء قائما على فعالية الدور وأثره. فالمُشاهد كائن بصري لا يتجاوز حدود القيمة الاستهلاكية في سوق الأخبار العاجلة أو المؤجلة، بينما تكمن القيمة المثلى لشاهد العيان بامتلاكه الحقيقة!

أنت اليوم في موقع الحدث، وها أنت تأخذ الحدث من موقعه إلى موقعك على منصات التواصل الاجتماعي، فتحرره كما حررك، هذه هي ديناميكية العلاقة بين الشاهد والمشهد على قناة الجزيرة التي تجعل منك أنت صانعا للخبر، وناقلا له لا متلقيا فحسب، ومتأملا ومحاكما لا محكوما لأجنداته وخلفيته الإعلامية، التي تبثه لك من زاوية عمياء توجه مستواك البصري إلى منحى مضاد، تتلاعب فيه بموقفك وتخضعه لعمليات غسل أدمغة يتم بها اختطاف ضميرك، الذي سينحاز دون وعي إلى الجلاد لا إلى الضحية مادامت السردية برمتها مُنحرفة!

ينتقل دور الجزيرة من قوة للردع إلى قوة للدفع فاعلة ومحركة، وتحريرية للمُتلقي الغربي – على وجه الخصوص – من الطوق الهلامي الصلب الذي يحيط بوعيه، ويلجم ضميره

روبوتات استشراقية

يتم نشر المعلومات في الإعلام الغربي عبر منظومة روبوتية شاملة محكومة بذهنية الهيمنة التعسفية، وروحها الاستشراقية، وهذا ما يجعل من الحرب حرب وعي وفكر.. تُفرز فيها المواقف وتسقط الأقنعة في سوق "الترند" وكائناته الشعبوية المُسيرة والتي تعيد تدوير الرسائل واستخدامها بأسلوب مستقل ومقنع ومؤثر على المتفاعلين الحقيقيين والأسهم التفاعلية، ما يجعله محجا يتهافت إليه الجميع بتدافع أعمى للاستقطاب الرقمي لا القيمي.. أليس هذا وباء تفاعلي يشوه ديناميكية الاستجابة بقوة دافعة تضخ الفيروسات المعلوماتية بأسلوب قهري يصل لمستوى جرائم قمعية تقوم بتصفية أي حقيقة أو رأي لا يتماشى مع مزاجها وبتطرف خوارزمي، تُستدعى به روبوتات شبحية من الخدمة الاحتياطية لتفعيلها في سبيل التلاعب بالتأثير الاجتماعي والتحكم به.

ما الذي فعلته الجزيرة إذن؟

الدور الحقيقي هو دور استنفاري يقف قوةً رادعةً للنفير الإعلامي والفكري الطاغي في الغرب، فالتغطية المباشرة والحية لكل ما يجري في غزة عطلت هذا الدور وحررت الوعي الإنساني من الوصاية الروبوتية عليه، وفضحت التواطؤ مع سرديته الاضطهادية، معززة هذا التحرر بحصانة لغوية، ومشهدية حية، تردفها حركة تحليلية غاية في الدقة والخبرة والاحتراف.

بالصوت والصورة، يرى العالم نفسه ماثلا أمام مشاهد مفتوحة ترصد عمليات قصف يتم نقلها نقلا مباشرا – لحظة بلحظة – يُسقط الخبر ويُكرس الحدث، ويقوم بإقالة المُشاهِد من مهمته العمياء: المشاهدة!

عيناك لن تكفياك، في ظل هذا الاحتباس التفاعلي الجامد الذي يتبناه الإعلام الغربي ومن هم في حظيرته الاستشراقية.. وهنا ينتقل دور الجزيرة من قوة للردع إلى قوة للدفع فاعلة ومحركة، وتحريرية للمُتلقي الغربي – على وجه الخصوص – من الطوق الهلامي الصلب الذي يحيط بوعيه، ويلجم ضميره، ما نجم عنه هجرة فكرية جماعية، من المنصات الغربية ومصانع أخبارها المفبركة، إلى أرض الحدث ومع أبناء المكان وحراس الحقيقة، وفي يدهم مستندات إعلامية موثوقة وموثقة، تزخر بها مكتبة الجزيرة غزة!

قد تنهزم حضارة بأكملها وتسقط في قاع الجحيم حين لا تتمتع بشجاعة كافية لحمل أمانة الحق

سقوط الخبر وارتقاء الحدث

سقط الخبر.. سقوطا مدويا إذن.. فلا حاجة لك به حين يكون بديله النقل الحي والمباشر للحدث، وبه ترد الجزيرة الاعتبار للدور المنوط بالرسالة الإعلامية والتي لا يمكن حصرها بدور أو واجب مهني رتيب قد لا يصلح سوى للاستغلال أو التوظيف في كل ما يخالف ميثاقه الإعلامي!

هي استراتيجية حية إذن، تخترق الجدار العازل: الكاميرا، لتجعل منك شريكا ميدانيا في الشهادة على المجازر التي تُرتكب أمام ناظريك.. ترى الشهداء والجثامين ومن هم تحت الأنقاض، ترى دموعهم ويصلك لهيبها، أصواتهم تستغيث، طواقم الإنقاذ وهي تتوافد إلى المكان وتحاول بأبسط الإمكانيات انتشالهم، ترى المقابر الجماعية وتكفين الجثث وثلاجات الموتى وتوديع الأحبة، ترى القصف والذبح، وينسكب فوق جلدك رعاف دمهم الطازج.. ترى طوابير من الأحضان اليتيمة تهفو لشراشف الملائكة وتشم رائحتها من حنان وحنين.. وترى وترة وترى ما لا يمكن للعين وحدها أن تراه..

تستنفر الجزيرة كل العالم بهيئاته الدولية المختلفة وبنخبه وقاماته وأدواته التوثيقية وخبرائه، بضحاياه الناجين، وبأهالي الضحايا، بمبدعيه الواعدين وبمخضرميه المتمرسين، بشياطينه وسحرته ومشاهيره وأبطاله، يصبح العالم بأسره مُستنفرا، ينتظر دوره على الهواء للإدلاء بأقواله، كشاهد عيان، وهنا يكمن التحدي، والاختبار الحقيقي للذات، حيث تضعك المَشاهد المباشرة وجها لوجه مع ضميرك وموقفك الذي عليك أن تحسمه للتو وعلى الهواء.. وبهذا النهج الفلسفي والأخلاقي تُسجل المواقف وتُعقد المحاكمات الفورية بتلقائية وبديهية خالصة.

النزاهة بين إعلام الجلاد وإعلام الضحية

توفرت للجزيرة كل العناصر التنافسية، التي تفوقت بها على المستويات التنافسية، ليس فقط من إمكانيات مادية وفكرية وإعلامية وأعمدة صحافية مُعتقة ذات خبرة طويلة ومتمرسة، لتصبح جامعة أو دارا إعلامية كاملة ومتكاملة العناصر، لتخريج واكتشاف طاقات متميزة، وإعداد جيل واعد بنفس إعلامي فريد من نوعه يعيد الاعتبار للحدث والوعي والحقيقة وحرية الرأي. وتطور أساليب الاستجابة لدى النخب والعامة؛ بل بما عقدت عليه العزم من تكريس النزاهة بوصفها حجر أساس في التغطية الحية.. فلا وصاية إخبارية، ولا انتقائية، ولا حجرا إعلاميا على الحقائق والمعايير.

إنها منصة الهواء المفتوح على مدار الساعة.. بدون جدولة زمنية أو برامجية، الجزيرة.. إعلام تسجيلي، ووثيقة قانونية وتاريخية نابضة بإيقاع التوازن الصحافي والنسق الاحترافي.. الذي ينحاز إلى الضحية ولا يقبل أبدا أن يصبح أداة عمياء في يد الجلاد.

قد تنهزم حضارة بأكملها وتسقط في قاع الجحيم حين لا تتمتع بشجاعة كافية لحمل أمانة الحق.. وقد يكون هذا هو الزمن الذي تتمرد فيه الرسالة الإعلامية الحرة على إعادة تدوير العبودية عبر إخضاع الإنسان إلى حُكم الروبوتات الاستشرافي وأحكام الأبارتهايد الإعلامي الذي يحترم الجلاد ويحتقر الضحية!

وائل الدحدوح عاش شاهد عيان ميداني، فهو ابن المكان، وشاهد عليه وعلى شهدائه، ينتمي إلى أهله وأوجاعهم، وتضحياتهم، ولذلك لم يقبل أن يتخذ من موقعه الوظيفي ذريعة تمييزية أو تفضيلية عنهم

ثمن الشهادة الاستشهاد

على مدار هذه المسيرة الإعلامية، دفع جنود الجزيرة أثمانا باهظة، فمنهم من تم أسره ومنهم من زُج به في معتقلات عنصرية ومنهم من استشهد ومنهم من استشهدت عائلته.. وفي ظل أحداث غزة.. لا بد أن تتوقع كشاهد عيان، إجراء انتقاميا ما، طالما أن دحض السردية التي قام العدو عليها بوصفه كيانا وفكرة، قد تم سحقها تماما.

وائل الدحدوح كان في موقعه الميداني، يقوم بالتعليق على غارة يشنها الاحتلال أمام عدسات التصوير وينقلها عبر الميكروفون نقلا حيا ومباشرا حين تلقى خبر استشهاد عائلته على الهواء.. ويا الله!

من أين يأتي الثبات؟ هل يكفي الالتزام المهني وشرف الواجب لهكذا موقف؟

أنت كإنسان لن تتقبل ولن تقبل أن ترى أبا يختار عمله على حساب شهدائه.. كيف تثق به؟ الأمر غير منطقي بتاتا ومخالف للفطرة الإنسانية!

ولكن مهلا، لا يجب أن تكون من السذاجة بحيث تعتقد أي التزام وراء هذا الثبات؟  إنه أكبر من هذا بكثير..

وائل الدحدوح عاش شاهد عيان ميداني، فهو ابن المكان، وشاهد عليه وعلى شهدائه، ينتمي إلى أهله وأوجاعهم، وتضحياتهم، ولذلك لم يقبل أن يتخذ من موقعه الوظيفي ذريعة تمييزية أو تفضيلية عنهم.. أراد أن يختبر الثبات بالتثبت منه.. نهض من الركام.. كما اعتادت غزة أن تفعل بعد كل غارة.. ولأن وائل هو ابن الشوارع والأزقة والشاطئ والمخيمات.. ابن الحارات والحكايات.. ابن الميدان بكل حالاته وتحولاته.. يشبه غزة وتشبهه هي …فقد استعار من غزته أهم شيفراتها الجينية: القيامة.

ودع أحبابه، ورجع إلى موقعه، لأنه يعلم تماما أن أي مشهد يفوته يطمر شهادة وراءه.. رجع إلى أمانته قبل مهنته، ليس فقط كصحافي بل كمهندس مدني يزودك بالرسم التخطيطي للمدينة والخارطة التفصيلية لمكوناتها.. فأضلاعها ومحاورها وأحزمتها ومربعاتها.. وأنقاضها.. وجثامينها وطيور فينيقها.. وووووو.

وائل الدحدوح ذاكرة غزة.. ذاكرة المقاومة.. والقيامة، هكذا ينحاز الصحافي الشريف لميثاق الشرف الصحفي.. فيوقظ الوعي العالمي، ويستنفر الضمائر ليس بالمهنة بل بالرسالة، ويثبت فعليا أنه قادر على تكبد تبعاتها ودفع أثمانها الباهظة مهما كلفه ذلك، ولذلك فإنه لا يترك أمامك خيارا سوى أن تصدقه وتحترمه، وقد تحول من موقع الشهادة على الحدث إلى موقع صناعة الحدث بلقطة هي من أجمل لقطات الحقيقة: لقطة الشهادة!

إن للصحافة رسلا، هم أهلٌ لرسالتها، فمن كان أمينا على الشهداء ومن كان شاهدهم خلال كل تلك العقود، لن يخذل شهداءه أو يخونهم. ويا الله ما أجمل هدايا السماء.. التي يتلقفها هذا البطل بصبر ورباط: معلش!

كلمة ذهبت مثلا ومثالا.. وقد التقط رسالة القاتل بذكاء وحكمة:

"بدهم ينتقموا منا بالأولاد".. ومعلش!

هكذا هم رسل الحقيقة.. وهذا هو وائل الدحدوح رسول الشهداء.. والله لو أن وائل استشهد لما كان شهيدا بهذا القدر!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.