شعار قسم مدونات

هل خاتم البشر في قارورة أم ضائع في الفضاء؟

الخوارزميات.. كيف يتحكم الذكاء الصناعي في حياتنا؟
تفرض المنظومة القيمية على البعض التفاعل مع الأحداث ومحاولة نشر الحقائق بهدف عدم إفراغ الساحات الرقمية من الحقيقة بالرغم من تسلط بندقية الخوارزميات (الجزيرة)

مجدداً، ندرك أن حياتنا ليست كخاتم في قارورة وحسب، بل إن القارورة ضائعة أيضاً في فضاء لا نستطيع التحكم بزمامه.

خلال الأيام الأولى من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، شركات متعددة شكلت عصب حياتنا اليومية، أعلنت دعمها لإسرائيل. فكان الرد حاسماً بالمقاطعة. تقارير وأرقام تحدثت عن خسائر كبيرة لأعمدة التجارة الدولية في العالم، مما يعني أن هذا الإضراب العالمي آتى ثماره.

لكن اللافت في الأمر، أن دعوات المقاطعة للشركات التي لم تخفِ دعمها للاحتلال، انطلقت من الميادين الرقمية التابعة لحيتان التكنولوجيا والسياسة والمال في العالم، هذه المنصات والقائمون عليها، يدعمون إسرائيل بشكل واضح ومباشر، ضمن نطاق ما يسمى بحرب تدفق المعلومات.

العلاقة التي تجمع بين الاتصال (الإعلام) والرأي العام خلال الأزمات، هي علاقة متداخلة ذات طبيعة وظيفية، تجعل من أدوات الاتصال أداة لتشكيل الرأي العام، وجزءاً من الهيكل البنائي له

ورغم أن حرب المعلومات التي ضلعت بها هذه الشركات ليست رهينة هذا الحدث، أو متعلقة فقط بالتضييق على المحتوى الفلسطيني، إلا أن دعوات المقاطعة لم تستطع أن تحطم أسوارها، أو تخترق جدران الهواتف التي تعمل من خلالها هذه المنصات، فبالرغم من دعم بعض شركات الهواتف لإسرائيل، لم تخرج إحصاءات تشير إلى انخفاض مبيعات تلك الهواتف.

إذاً لماذا يمكن للمقاطعة أن تغيّر من عاداتنا الاستهلاكية تجاه القهوة والطعام ومستحضرات التجميل، وتنهزم عند سلوكنا الرقمي؟

أصبح من الجلي أن جميع القوى المتصارعة وجهات صنع القرار في الدول العظمى تقوم بفرض ملفاتها باستخدام منافذ اتصال رقمية تقنية لتحريك أجندات خاصة وصنع قرارات سياسية باستخدام تلك المنافذ للتأثير منها على جميع الفئات المتفاعلة رقمياً، إذ باتت شبكات التواصل الاجتماعي تشكل للعاملين في السياسة بمحاورها كافة مساحة مفتوحة إضافية، مهما كان الحدث السياسي.

إذ أن العلاقة التي تجمع بين الاتصال (الإعلام) والرأي العام خلال الأزمات، هي علاقة متداخلة ذات طبيعة وظيفية، تجعل من أدوات الاتصال أداة لتشكيل الرأي العام، وجزءاً من الهيكل البنائي له سواء كانت هذه الأزمات قد حدثت بسبب فعل الاتصال نفسه، إن كان يهدف إلى "تبني موقف أو تحريض على فئة أو استقصاء حقيقة ما"، أو جاء كردة فعل على حدث أتى من خارج المحيط الرقمي واستقر به فأصبحت الأداة الرقمية فاعلاً ومؤثراً وشاهداً على الحدث.

لذلك نرى أن المجتمعات الحديثة، غالباً ما يصعب عليها الاستغناء عن خدمات الإعلام والمفرزات التي تنشأ عن أدوات الاتصال الدولي كالإعلام الجديد.

الشعوب الإسلامية اليوم، هي شعوب مستهلكة للتكنولوجيا، وليست مصنعة لها، وبالتالي فإن البحث عن بديل لمنصات التواصل الاجتماعي يكاد مستحيلاً، فيما تفرض المنظومة القيمية على البعض التفاعل مع الأحداث ومحاولة نشر الحقائق بهدف عدم إفراغ الساحات الرقمية من الحقيقة بالرغم من تسلط بندقية الخوارزميات

من خلال متابعة ما نشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي عن المقاطعة، نرى أن سلوك المقاطعين انقسم إلى نهجين: الدعوة إلى المقاطعة باعتبارها واجباً قيميّاً، والانطواء على البحث عن بدائل بجودة جيدة نسبياً تشبه إلى حد ما جودة البضائع التي تم مقاطعتها، في محاولة لتخفيف رهاب تغيير المنهجيات السلوكية والاستهلاكية التي اعتاد عليها شخص ما، وطمأنته بوجود بديل يغنيه عن منتجه الأصلي.

أما عندما نتطرق إلى السلوك الرقمي، نجد أن هذا الوضع مختلف كليّاً. الشعوب الإسلامية اليوم، هي شعوب مستهلكة للتكنولوجيا، وليست مصنعة لها، وبالتالي فإن البحث عن بديل لمنصات التواصل الاجتماعي يكاد مستحيلاً، فيما تفرض المنظومة القيمية على البعض التفاعل مع الأحداث ومحاولة نشر الحقائق بهدف عدم إفراغ الساحات الرقمية من الحقيقة بالرغم من تسلط بندقية الخوارزميات على كلمات مناصري القضية الفلسطينية عموما. وهو ما يؤدي إلى إخفاء المعلومات والتلاعب بالروايات وممارسة التضليل ومحاولة تغييب الذاكرة، فضلاً عن التأثير على مناخ حرية التعبير والنشر والرأي العام، والذي كان من أهم الأسباب التي جعلت من المنصات الرقمية قديماً فضاء حراً للمستخدمين.

فبمعزل عن حرب الأرض، نعيش في طور سباق تسلح محموم للسيطرة على الأسلحة التكنولوجية وامتلاك اكثرها فاعلية، وتوظيف التكنولوجيا في خدمة المسارات السياسية والعسكرية والاستخباراتية التقليدية، على نحو يرفع من قدرة الدول ويجعلها متوائمة مع احتياجات العصر الجديد، لكننا اليوم وأمام هذه الحقيقة، لا يمكن إلا أن نعترف بأننا بافتقادنا السيطرة على هذه الأسلحة، نتجرع هزيمة تقنية كبيرة في معركة الاستحواذ على المعلومات، مهما حاولنا السباحة ضد التيار ومواجهة وحشية الخوارزميات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.