شعار قسم مدونات

عودةُ بيبرس!

الظاهر بيبرس معركة عين جالوت المصدر: مواقع التواصل
رسمة تخيلية للظاهر بيبرس في معركة عين جالوت (مواقع التواصل)

أنا لا أحلم الآن.. كل ما في الأمر أنني أقرأ التاريخ، وعلى ضوء التاريخ أنظر في الذي يجري على الأرض هذه الأيام، ومن خلاله أرى بيبرس قادمًا من جديد!

إنها روحه التي تبدو لي قد سَرَت في نفوس تلك الفئة من المرابطين الميامين على أرض غزة، روح ذلك البطل الهمام الذي عرفتْه الأمَّة منذ ما يقرب من ثمانمئة سنة، وعرفت فيه بارقة أمل عادت إليها بعد عقود من الزمن، أقامت فيها على الذلّ والهوان، حتى بدت لها تلك الحال لازمة لا فكاك منها ولا خروج، فإذا بروح بيبرس تنتفض في وجه الذلّ، وتتمرد على الهوان، وتصنع نصرًا تخرق به المألوف، فتؤكد للمُحبَطين أن العودة إلى مراتب العزة متاحة لمن أرادها، وأَعدَّ لها العدَّة.. آنذاك، في عصر مضى، وُلِد الأمل في غزة، وفي غزة يُصنع الأمل اليوم من جديد.

أقرأ في صفحات التاريخ عن هولاكو الذي أتى بعد سنوات بحملة جديدة ليتابع ما بدأه جنكيز خان، وأرى الخيانات قد أبرزت رأسها الشنيع لتتذلل للغزاة وتقدم لهم خدماتها، ويقوم الوزير الخائن مؤيد الدين بن العلقمي بدوره في تذليل العقبات لتأمين دخول جيوش التتار إلى بغداد

اليوم أسأل التاريخ عن بيبرس ومعركته على أرض غزة، فلا يستقيم له الكلام إلا بالحديث عن سنوات وعقود سبقت المعركة.. يحدثني التاريخ عن التتار، وقائدهم جنكيز خان، الذين اندفعوا من شرق المعمورة ليفتكوا ببلاد المسلمين التي حل بها التفرق والضعف، فصارت لقمة سائغة لأعدائها؛ فيُعملوا فيها القتل والسبي والحرق والتدمير، ويتركوا المدن خاوية على عروشها، كأن لم تغنَ بالأمس.

أراني التاريخ التتار في سنة واحدة (617هـ/ 1220م) قد وصلوا من الصين إلى كازاخستان ثم أوزبكستان ثم تركمانستان ثم أفغانستان ثم إيران ثم أذربيجان ثم أرمينيا ثم جورجيا، واقتربوا جدًّا من العراق، حيث بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية آنذاك. لقد جاءت جحافل التتار تنشر القتل والدمار، وتأكل الأخضر واليابس.

كان ذلك في زمان هزلت فيه الخلافة، وصار الخليفة صورة.. في زمان فُتِن فيه حكام المسلمين بالدنيا، وانشغلوا بتجميع الثروات وتحصيل المناصب، وتركوا الدين، ولم يرعوا حقوق الرعية. ولازم فساد الحكام آنذاك فساد حال الناس، إذ ساءت التربية، وغاب الفهم الصحيح للإسلام، وبلغ التمسك بالدنيا أقصاه، وغاب عن الناس وضوح الرؤية؛ فقد دبت الهزيمة النفسية الرهيبة في داخل قلوب المسلمين، فما استطاعوا أن يحملوا سيفًا، ولا أن يركبوا خيلاً، بل ذهب عن أذهانهم أصلاً التفكير في المقاومة، وبذلك سهلت مهمة التتار الذين وجدوا أبوابًا مفتوحة، ورقابًا جاهزة للقطع!. وكأني الآن يتردد على مسمعي قول ابن الأثير في الكامل: كان التتري يدخل القرية بمفرده، وبها الجمع الكثير من الناس فيبدأ بقتلهم واحدًا تلو الآخر، ولا يتجاسر أحد المسلمين أن يرفع يده نحو الفارس بهجوم أو بدفاع!

أقرأ في صفحات التاريخ عن هولاكو الذي أتى بعد سنوات بحملة جديدة ليتابع ما بدأه جنكيز خان، وأرى الخيانات قد أبرزت رأسها الشنيع لتتذلل للغزاة وتقدم لهم خدماتها السخية، ويقوم الوزير الخائن مؤيد الدين بن العلقمي بدوره على أكمل وجه في تذليل العقبات لتأمين دخول جيوش التتار إلى بغداد مقابل أن يكون له شأن في (مجلس الحكم) الذي سيدير بغداد بعد سقوط الخلافة.. ويدخل هولاكو بجيشه، ثم يصدر أمره باستباحة بغداد أربعين يومًا كاملة، قتل فيها الرجال، وسُبِيت النساء واغتُصِبن، وقُتِل الرُّضَّع، ونُهِبت الأموال، وكان حصاد تلك الاستباحة مليون قتيل!

ثم أرى الخليفة يُقتل رفسًا بالأقدام؛ لتكون نهايته مهينة كما كانت حياته، ومؤيَّد الدين العلقمي يُعيَّن بقرار من هولاكو رئيسًا على مجلس الحكم المعين من قِبل التتار على بغداد، وقد وُضعت عليه وصاية تترية.. ثم لا يطول به الحال بعد ذلك حتى يموت ذليلا..

وبسقوط بغداد تسقط الهمم، فيتقاطر بعض الأمراء المسلمين يؤكدون ولاءهم للتتار، وتبدأ الوفود الإسلامية الرسمية تتوالى على زعيم التتار تطلب عقد الأحلاف والمعاهدات مع (الصديق) الجديد، رجل الحرب والسلام: هولاكو! ولا شك أنه كان هناك أيضًا من العلماء الوصوليين من يؤيِّدون خطواتهم، ويباركون تحركاتهم، ويحضون شعوبهم على اتباعهم، والرضا بأفعالهم.

أتأمل ذلك كله فيتعالى في داخلي هاتف ينادي: ما أشبه اليوم بالأمس.. ما أشبه اليوم بالأمس!

كانت معركة غزة نقطة التحول التي هيأت النفوس للمعركة الكبرى القادمة، معركة عين جالوت.. وإن من الإنصاف كما عرفنا عين جالوت، أن نعرف أن معركة غزة بقيادة بيبرس هي التي مهدت لها السبيل.

ولكن الشبه كما بدا في نفوس ذليلة خانعة في جانب، ظهر في جانب آخر في همم عالية أبية، لم ترضَ بالهوان، ولم تستكن للهزيمة.. وفي غزة كان أول البيان لتلك الهمم. فقد احتل التتار المدينة عام 1260م، لكنهم لم يهنؤوا فيها، إذ استعيدت في العام نفسه على يد القائد الظاهر بيبرس، في معركة كانت بداية النهاية للغزاة، إذ شكلت انتفاضة على التصور الذي رسخ في نفوس أكثر الناس، بأن التتار قوة لا يستطيعون الوقوف أمامها، لكنه تصور لم يجد في نفس بيبرس القبول، فاستنفر الطاقات، وشحذ الهمم، وأحسن التخطيط والتدبير لمعركة قاد المسلمين فيها إلى نصر فاجأ الصديق وفاجأ العدو، وكلاهما استشعر أن الانقلاب على الواقع ممكن.. الفكرة أنعشت المسلمين وأعادت روح النشاط في نفوسهم، والفكرة ذاتها أرعبت هولاكو وجيشه.

كانت معركة غزة نقطة التحول التي هيأت النفوس للمعركة الكبرى القادمة، معركة عين جالوت.. وإن من الإنصاف كما عرفنا عين جالوت، أن نعرف أن معركة غزة بقيادة بيبرس هي التي مهدت لها السبيل.

أترك التاريخ وأعود ليومي.. أنظر إلى غزة فأرى أبطالها يعيدون مسيرة بيبرس، فأرى طبيعيًّا والحال هذه، أن نترقب من جديد نصرا يعيد مجد عين جالوت.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.