شعار قسم مدونات

جندي المعركة الطويلة!

الغرفة المشتركة لفصائل المقاومة الفلسطينية (مواقع التواصل)

تنهمر في هذه اللحظات أمطار الرحمة من السماء، وتنهمر معها أدمع كثيرة، تختلط دواعيها بين البهجة بتحرُّر الأسرى، والحزن بسبب الفقد والدمار الذي جرى.. يعيش إنسان هذا اللحظات الفاصلة تخبطاً في المشاعر لم يسبق له مثيل، ويصبح التوازن الانفعالي سلاحاً أنفع وأندر من السلاح الثقيل! رغم فخري وسعادتي بتفاعل الجيل الجديد مع الأحداث، ألمح بين سطور البعض يأساً بعد الحماس أو فتوراً للهمة وتبلداً في الإحساس.. ولأكون صريحة، أخشى إن نحن لم نتعلم من تجاربنا السابقة، أن تفلت من بين أيدينا هذه اللحظة الفارقة! فإليك يا زميل الميدان أهدي من تجربتي هذا التبيان..

مر عام قبل أن أدرك أنني لست مشجعة على المدرجات تراقب مباراة بين طرفين من بعيد، بل إنني أقف في ميدان المعركة لا فرق بيني وبين آخرين سوى أنني جندي في مؤخرة الجيش لمّا يلتحم بعد في صفوف العدو كما فعل جندي في مقدمته.

أين أقف بالتحديد؟

فتاة سورية تعيش خارج بلادها، هكذا كنت حين بدأت الأحداث الفارقة في 2011، ولأن حرب التعتيم وتكميم الأفواه كانت الأبرز أقسمت أن أشارك في قول الحقيقة، لقد تابعت كل خبر كل يوم، كل مظاهرة وكل مجزرة، وكل قصة لمعتقل، قرأت كل حرف موجع يمزق القلب لأني شعرت أن هذا واجبي، كيف لكل تلك العذابات والتضحيات أن تمر دون حتى أن نعلم بها؟ خزَّنت في ذاكرتي كل صرخة، وشاهدت كل مقاطع التعذيب! ومع تواضع الإمكانيات قبل 13 سنة مقارنة بإمكانيات اليوم، ومع معارضة الأجيال السابقة لفعلنا الذي نكسر به جدار الصمت، بقي كثير من الآلام في داخلي لم يجد فرصة للإفصاح عنه.

أعترف، لقد أحرقت نفسي، كثيرة هي الليالي التي لعنت فيها قدري الذي أخرجني من دمشق وجعلني بعيدة عن الميدان، شعرت أنني كالمشجعة التي تراقب مباراة وتصرخ حتى يبح صوتها، لكن أثر فعلها ضئيل قليل يكاد ينعدم، لمَ لستُ في دمشق يا رب؟ أريد أن أكون هناك لأعمل عملاً نافعاً، أريد أن أشارك لعلِّي أصنع فارقاً في الأحداث!

مر عام قبل أن أدرك أنني لست مشجعة على المدرجات تراقب مباراة بين طرفين من بعيد، بل إنني أقف في ميدان المعركة، لا فرق بيني وبين آخرين سوى أنني جندي في مؤخرة الجيش، لمّا يلتحم بعد في صفوف العدو كما فعل جندي في المقدمة.

لقد أخرجني القرآن وفتوحاته من ضيق المشهد إلى الصورة الكاملة، أصبحت أرى ميدان المعركة كاملاً ونقاط الثغور التي تؤتى منها الأمة ثم فهمت كيف أن الله قد هيأني منذ طفولتي لثغر معين في هذه المعركة، لقد وجدت مكاني وأصبحت روحي تتوق إليه كأنه الهواء الذي لا أعيش إلا به

حالة الطوارئ وخطوط الإمداد

"نحن في حالة طوارئ، افعل ما تستطيع فعله وقدم ما تستطيع من خدمة، شارك هنا وهناك، اكتب، صوّر، شارك وتبرع، لا وقت لدينا لكثير تخطيط، يجب أن يتم الأمر بسرعة، احشد نسّق، هل لديك خبرة في التصميم؟ لا بأس.. تعلّم وجرب؛ هل تخصصك صحافة؟ لا بأس.. جرّب تتعلّم؛ نحتاج من يطفئ الحرائق هناك ونحتاج ونحتاج.."

بعد أن كنت أجلس في المقاعد الأولى في كل محاضرة، أصبحت أختار مقعداً يتوارى خلف عمود، لأستطيع التقاط غفوات خلال المحاضرات تعينني على إكمال اليوم، فأنا أعيش حالة طوارئ لا وقت فيها لأخذ الأنفاس أو التفكير، وعليّ أن أبذل كل ما لدي حتى لو عنى ذلك إهمال دراستي، أو انقطاعي الطويل عن الأهل والأصدقاء، أو تجهمي الدائم بسبب الأخبار، أو انسحابي من المناسبات الاجتماعية رفضاً لمظاهر الحياة الطبيعية؛ حتى إنني أهملت قرآني ودروس الدين وعانيت لفترة من فوات الصلوات مني، لقد انقلبت حياتي رأساً على عقب، فنحن في حالة طوارئ ونريد نتائج سريعة، ما نقدمه لا يكفي فالقتل لا يتوقف! يجب أن نوقف هذا الظلم! إننا لا ننجح لأننا لا نعمل كفاية، هكذا كنت أظن في قرارة نفسي.

ثم لم يعد بمقدوري الاستمرار، كثير مما شاركت به توقف أو تعرقل بسبب مشاكلَ بين فريق العمل، أو سوءٍ في التنفيذ أو ضعف في التخطيط، بدأت تظهر نتائج اختلاف تفكير كل منا وقلة نضجنا وخبرتنا، أحبطني ذلك، فقد كنت أقتات على النتيجة الظاهرة للعيان وما عاد هناك نتيجة! مع الإحباط تبلّد إحساسي ولم أعد أفهم كثيراً مما يجري، أذكر أني كنت مرة في احتفال مع صديقات لي في سكن الطالبات فتقدمت إليَّ صديقة وقالت: لم أتوقع رؤيتك هنا، ألم تسمعي بالمجزرة الفلانية اليوم؟! قلت لها: مجزرة جديدة.. الله يعينهم، ماذا يمكنني أن أفعل؟ لقد كنت كالجندي في ساحة معركة، يقف في ميمنة الجيش ويريد أن يشارك في ميسرة الجيش، وأن يكون أيضا في صفوف المسعفين دون خبرة منه.. ثم يتجمّد مكانه دون حراك.

مشكلتي التي أدركتها لاحقاً أنني قطعت عن نفسي خطوط الإمداد، وكم من معارك هُزم جنودها لطول فترتها وانقطاع إمداداتهم، وكم من مدن محاصرة سقطت لذات السبب؟ لقد انهمكنا في ما أسميناه حالة الطوارئ، وتناسينا أننا جميعا نحتاج الإمداد، لقد أُصبت بالإنهاك حتى أنني لم أكن أعي الإمداد الذي أحتاجه.. في 2014 انكفأت على نفسي ودراستي، وبدا للآخرين أنني استسلمت، سألتني صديقة كانت لا ترى جدوى من كل هذا قائلة: "شو؟ ما حررتوا الأقصى؟".

قد يكون للمعارك هدن معلنة وقد لا يكون، لكنك في كل الأحوال ستحتاج استراحة لا لتعود إلى حياتك التي سبقت المعركة بل لتنظم أوراقك وتدرس النتائج وتخطط لخطوتك القادمة ثم تجمع زادك وتنطلق من جديد

أبحث عن مكاني

تراجعت خطوة إلى الوراء.. نعم، لكنّني كنت بحاجة لذلك، لقد كنت أبحث عن مكاني، وفي أثناء ذلك احتجت أن أعيد البحث عن نفسي، من أنا أصلاً؟ لِمَ أصبحت ما أصبحت عليه؟ إنني الآن أكتب هذه السطور وأنا متعجبة، أن كل تلك الأحداث كانت في أربع سنوات فقط! وأنا التي كنت أظن حينها أنني قد عشت دهراً في تخبط وتيه! تخرجت من الجامعة فوجدت فرصة لأقرأ وأتعلم وأستزيد، أصلحت علاقتي التي ساءت مع خالقي، واسترجعت وصالي مع القرآن، ومن هذه النقطة بدأت أرى بنور الله مالم أكن قد رأيته من قبل.

لقد فتح الله لي فبدأت ألتهم الكتب التهاماً، وأنجز في أسبوع دورات تحتاج لشهور، لم أكن أريد الكثير منها، احتجت فقط ما يعينني على فهم نفسي وإيجاد جواب سؤالي الملح: أين هو مكاني؟ لقد أخرجني القرآن وفتوحاته من ضيق المشهد إلى الصورة الكاملة، أصبحت أرى ميدان المعركة كاملاً، ونقاط الثغور التي تؤتى منها الأمة، ثم فهمت كيف أن الله قد هيأني منذ طفولتي لثغر معين في هذه المعركة، لقد وجدت مكاني وأصبحت روحي تتوق إليه كأنه الهواء الذي لا أعيش إلا به، رفعت رأسي إلى السماء في ليلة رمضانية أناجي الله وأقول: "مستعدة يارب، ماذا الآن؟ ما الخطوة التالية؟".

استراحة المحارب

الخلاصة يا زميل الميدان.. قد يكون للمعارك هدن معلنة وقد لا يكون، لكنك في كل الأحوال ستحتاج استراحة، لا لتعود إلى حياتك التي سبقت المعركة، بل لتنظم أوراقك وتدرس النتائج وتخطط لخطوتك القادمة، ثم تجمع زادك وتنطلق من جديد؛ واعلم أن ميدان المعركة غير محدود بمكان جغرافي ولا حتى بزمان، ففي غزة ميدان وفي العراق ميدان، وحرب أفغانستان جولة، وحصار الشام جولة.. لا ضير إن كنت تعمل لجولة اليوم أو تعالج جراح جولات سابقة، إن كنت في ميمنة الجيش أو ميسرته.. لا فرق في ذلك ما دمت بنور الله تعرف ثغرك، وبعون الله تلتزمه، وبيقين من الله ترى الهدف الكبير كالحقيقة أمامك.

فأخبرني يا من خلقه الله لهذا الزمان، ووضعه بتقديره الحكيم في هذا المكان، يا جندي هذه المعركة الطويلة الكبيرة، يا من أعده الله لهذه اللحظات منذ صرخة حياته الأولى، بعد هذا ما الذي يهزمك؟.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.