شعار قسم مدونات

العالم والحاجة إلى ظهور "المخلص"

مئات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
نظرة متفحصة لواقع حال البشرية في عصرنا الحديث من شأنها أن تدعونا للتساؤل عما إذا كنا نعيش فعلا ما اصطلح على تسميته بآخر الزمان (وكالة الأناضول)

لأن المناسبة شرط، وحيث أن الحرب الدائرة رحاها الآن في غزة، قد تكشفت عن مأزق حضاري عميق، حين أعلنت الدول الغربية الكبرى عن مواقف جد منحازة لإسرائيل في قلب غريب للحقائق ونصرة للاحتلال في ضرب سافر لمبدأ الموضوعية، وفي تجاهل تام لأبسط قواعد القانون الدولي، أمام هذا التوجه الاستكباري الذي يعود بنا إلى عهود استعمارية غابرة، والذي يأخذ شكل اصطفاف غير أخلاقي يكاد ينذر البشرية جمعاء بتداعيات مظلمة، فإننا مدعوون في هذه اللحظة الفارقة من تاريخنا المعاصر.

إلى محاولة القراءة والبحث في مسببات ما وصل إليه الوضع من أحداث تراجيدية على مسرح الدراما الإنسانية، والواقع أن أحداث غزة لم تكن سوى القشة التي قصمت ظهر البعير فيما يخص حالة السلم الدولي، في عالم طغت عليه اقتصاديا نزعات هيمنة ليبرالية متوحشة، وسياسيا توجهات يمينية وشعبوية تحريضية متطرفة، فكان أن أدى كل ذلك بالمشهد العالمي، إلى ما يشبه طنجرة ضغط تهدد بالانفجار، في مناخ يغيب عنه التواصل الجاد بين مختلف ثقافات ومكونات العائلة البشرية، غياب تواصل استحال حوارا للطرشان لا ينصت فيه أحد للآخر.

 هذا المخلص المنتظر ما هو وإلا صورة عن ضمير الجماعة الإنسانية بأسرها، حيث يتم تصور انتصاره على قوى الشر في آخر الأزمان تعبيرا عن نجاح الإنسانية في تنقية نفسها واستعادة صورة آدم قبل انقياده للشيطان

والحقيقة أن مؤشرات الإنذار كثيرة وعديدة، غير أن رادارات الرصد إما متجاهلة أوعنها غافلة، وليس أقل تلك المؤشرات، التغيرات المناخية التي تزيد استفحالا سنة بعد أخرى، في الوقت الذي يتتالى فيه تنظيم قمم للمناخ، حيث الحصيلة شبه ثابتة: رفض كل الأطراف الإنصات لصوت الواجب والقيام بأي رد فعل من شأنه إنقاذ كوكب أضحى كسفينة على وشك الغرق، من المؤشرات أيضا التي كانت لافتة في فترتنا المعاصرة، وإن كانت صغيرة في حجمها لكن كبيرة في دلالتها، أحداث السطو التي شهدناها إبان أزمة كورونا، من قبل دول على سفن دول أخرى محملة بأبسط وسائل الحماية ضد الفيروس، وكأننا أمام عصابات قراصنة، لا دول حديثة تحترم اتفاقيات القانون الدولي.

إننا أمام جدلية للخير والشر تعيش واحدا من أصعب أوقاتها، إن لم يكن الأصعب على الإطلاق، وحيث أن حياة البشر قد عرفت منذ بدء الخليقة وجود هذين المبدأين الكونيين المتصارعين، ممثلين في الخير والشر، واللذين قاد صراعهما عجلة الزمن وحركة التاريخ، فإننا نجد في جل الثقافات والأديان تصورا لنقطة نهاية محتومة لهذا الصراع، منها ما ذهب إلى التنبؤ بظهور مخلص في فترة ما قبل النهاية أوما يسمى بآخر الزمان، هذا المخلص المنتظر ما هو وإلا صورة عن ضمير الجماعة الإنسانية بأسرها، حيث يتم تصور انتصاره على قوى الشر في آخر الأزمان كتعبير عن نجاح الإنسانية في تنقية نفسها واستعادة صورة آدم قبل انقياده للشيطان، هذه التصورات الدينية المتعلقة بالمخلص المنتظر دعيت لاحقا بالمسيانية نسبة إلى كلمة ميسيا، وهي كلمة آرامية-عبرانية تعني المسيح المنتظر في آخر الدهر، ظهرت الفكرة وسادت بداية من الديانة الزرادشتية التي بشرت بظهور ملخص يدعى ساوشنياط حين تحل الأيام الأخيرة وتقترب الساعة، مرورا بالديانة اليهودية في شق اسفارها النبوئية والرؤيوية، وبالديانة المسيحية التي تنتظر المجيء الثاني للمسيح الذي سيحرر العالم من الظلام ومن اللعنة، وصولا إلى الإسلام الذي تتنبأ أدبياته بظهور المسيح كذلك، وكذا بظهور الإمام المهدي المنتظر الذي سيملأ الارض قسطا وعدلا، كما ملئت ظلما وجورا.

إن نظرة متفحصة لواقع حال البشرية في عصرنا الحديث، من شأنها أن تدعونا للتساؤل عما إذا كنا نعيش فعلا ما اصطلح على تسميته بآخر الزمان، ذلك الزمان الذي وصفه السيد المسيح مثلما جاء في إنجيل مرقس بالقول :"يكون في تلك الأيام ضيق لم يكن مثله منذ ابتداء الخليقة التي خلقها الله إلى الآن ولن يكون" على نفس المنوال، نجد في الإسلام وبخاصة في عدد من الأحاديث النبوية وصفا مماثلا لأشراط الساعة أ وأمارات آخر الزمان، كمثال على ذلك الحديث الشريف الذي أخرجه البخاري ومسلم: "والذي نفسي بيده، لا تقوم الساعة حتى تقتلوا إمامكم، وتجتلدوا بأسيافكم، ويرث دنياكم شراركم".

 لقد تقدمنا من الزوارق إلى السفن إلى البواخر إلى المكوكات الفضائية، لكن لا أحد يعرف إلى أين نحن ذاهبون

الواقع أنه من الصعب الجزم أن أزمنتنا الحالية تتوافق يقينا مع اخر الزمان، ذلك أن البشرية على امتداد عمرها المديد لم تخل ومن مظاهر قد تنطبق عليها المواصفات التي جاءت في نصوص علامات الساعة، فكما قلنا سابقا شكل الصراع بين الخير والشر دوما وقودا ملهبا لحركة التاريخ، غير ان ذلك لا يمنع بحال حاجة عصرنا لمخلص، حاجة تستحثنا مثل دق لناقوس خطر، ومخلص هنا ليس بالمعنى الديني الحرفي، بل بالمعنى الرمزي المفعم بتلك الدلالة السيكولوجية التي تفيض رغبة في انتصار الروح الإنسانية وبلوغها كمال البدايات.

في ذات السياق، وبعيدا عن المقاربة الدينية، فنحن بحاجة كذلك إلى مخلص بالمعنى العلماني حين نلحظ أن التوافق بين الحياة الإنسانية والقوانين الطبيعية للكون يعرف راهنا اختلالا بسبب بغي الإنسان على الطبيعة، ولا سبيل لعودة الانسجام سوى باتباع قانون أخلاقي يكون صورة وانعكاسا للقانون الكوني وإلا فإن ما ينتظر بني البشر ه و رد فعل مدمر من طرف الطبيعة، وكذا تغول أكبر للإنسان على أخيه الإنسان، كنتيجة طبيعية لتفاقم انعدام التناغم بين بني البشر والكون الذي يسكنونه.

إن خصوصية زمننا المعاصر تتمثل في أننا نعيش عصر تحقيق مكاسب مدهشة لم تتحقق في أي وقت مضى، وفي ذات الوقت البشر غير راضون عن أنفسهم أكثر من أي وقت مضى كذلك، لقد تقدمنا من الزوارق إلى السفن إلى البواخر إلى المكوكات الفضائية، لكن لا أحد يعرف إلى أين نحن ذاهبون، إننا أمام لحظة تاريخية تستدعي وقفة تفكير وتأمل، في هذا الإنسان الحديث الذي لم تكن نشوته بإنجازاته المادية كفيلة بأن تحقق له الطمأنينة والسلام، وذلك لأن ثمن التحصيل المادي كان ضمورا متزايدا يعانيه بشر اليوم على مستوى النشاط العاطفي والجمالي والديني، لقد صرنا أكثر تمدينا لكننا بالكاد نظهر شكلا ابتدائيا من الشعور. لقد تكشفت عقلانية الغرب التي شكلت مصدر إلهام للبشرية جمعاء عن وهم وسراب، بقدر ما كانت وعود التنوير والحداثة مغرية بأحلام وردية، وهي ترفع شعارات الديمقراطية والعقلانية والانتصار للحريات وحقوق الإنسان، بقدر ما تبين أن الوعود لم تكن بالجدية الكافية، أ وأن الجدية كانت تخص أعراق دون أخرى، وجغرافيا دون أخرى، فجرت رياح الأحلام بما لا تشتهيه سفينة الأمن والسلام العالميين.

ولهذا تتبدى حاجتنا عظيمة لخلاص ينقذنا في هذا الزمن الموحش، وكم كان هذا الوصف لزمننا بديعا حين اختاره الروائي المبدع حيدر حيدر عنوانا لرائعته "الزمن الموحش" ومما جاء في طيات الرواية: "للناس ظلال وعشب وموانئ، ونحن مرافئنا مهجورة. للناس بيوت وأغنيات حب، وأنا وأنت خراب وغيوم صيف ومسافات. وحيدان في هذا العالم، في هذا الزمن الصعب، ولا موانئ. وحيدان كحبتي رمل على شاطئ مهجور، في مدينة لعنها عراف قديم من ألفي عام. أنا وأنت حواريان نبحث عن مسيح لا يصلب، عن أناجيل لا تهترئ وتزور، عن توراة لا يرفعها السفاحون راية غزو، عن قرآن لم يمسسه إنسان. كتاب جديد لم تأكله أصابع الزمن".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.