شعار قسم مدونات

خبر غير عاجل.. أنفاس هدنة

الشعب الفلسطيني بهذا ينقل رسالة إلى العالم أن نوعية السلاح ليست الفائز دوما في معركة الإرادات (غيتي)

تشهد القضايا الإنسانية أفولا أشبه بأفول الحضارات، وتتجدد ويتأجج الحديث عنها كلما حركت ريحها الأزمات أو حين يقودها السعي والمحاولة لإعادة الأمور إلى نصابها بعيدا عن مشاعر الاعتياد وحالة البلادة. تبدأ قوية بآمال عريضة وتشتد بالحماس، حيث يتدفق منها إيمان جازم بالنصر والتمكين، حتى تمتلئ وتتسع، ثم تستوي وتستقر، ثم يتسلل إليها الخمول والرتابة ويسودها الركود إذا ما اعتمدت المقاربات التقليدية التي تسود المشهد العالمي إزاء القضايا العربية المصيرية.

الواقع المضمخ بالدماء والأشلاء والمعاناة عليه أن يبقى متصدرا المشهد الإعلامي، فالهدنة لا تعنينا نحن بقدر ما تعني ذلك الشعب المنهك لاستعادة أنفاسه، فيطيب الجريح منه ويبرأ المكلوم ويعزي الفقيد نفسه فيما فقد.

تتجلى هذه الديناميات بوضوح في سياق القضية الفلسطينية؛ فتراها تتسع تارة وتنكمش تارة أخرى، حيث يشهد الشعب الفلسطيني مراحل متعددة من التحديات والأزمات. لذا من المهم أن لا ننسى في خضم الهدنة المعلنة أن البروباغندا التي يروج لها الغرب منذ السابع من أكتوبر -وقبل ذلك أيضا-هي شيطنة الفلسطينيين وإلصاق تهمة "الإرهاب" بهم، وأن محاولاتهم الحثيثة لاقتلاع المقاومة ما تزال تتصدر قائمة أولوياته وتعتلي خطاباته.

وأن لا ننسى أيضا تلك التكلفة البشرية التي ألحقتها الماكنات العسكرية الصهيونية بالشعب الفلسطيني تحت غطاء هذه الذريعة، الدمار التي يستوجب سنوات ثقيلة من الإعمار والبناء والترميم، والصدمات النفسية التي بالكاد سيبتلعها الشعب دون علاج. وأخيرا وليس آخرا أن لا ننسى أن هذه الأرض فلسطينية بكل شبر فيها، وبالتالي هي ليست مطلقا محلا للتفاوض.

إن هذا الواقع المضمخ بالدماء والأشلاء والمعاناة عليه أن يبقى متصدرا المشهد الإعلامي، فالهدنة لا تعنينا نحن بقدر ما تعني ذلك الشعب المنهك لاستعادة أنفاسه، فيطيب الجريح منه ويبرأ المكلوم ويعزي الفقيد نفسه فيما فقد. هي للمجاهدين على الثغور والمرابطين في ساحات القتال من أجل إعادة تنظيم صفوفهم وترتيب مشهد القتال بشكل أفضل، أما استمرارية تصدر القضية الساحة العالمية فهو ما يعنينا نحن، حتى لا ندور في الحلقة الاعتيادية ذاتها من تبادل أسرى وتحديد مناطق عبور آمن، وحشد المساعدات الإنسانية وإعادة ترسيم الخريطة الأمنية..

وأن لا يصبح القتل والتهجير والإبادة الجماعية واقعا اعتياديا متكررا ضمن يوميات الفلسطينيين كخبر غير عاجل تحت تبريرات الغرب الحديثة "عملية دفاع عن النفس" لا تطول فاعلها العقوبات، ولا يجرم وإن تمادى في استخدام أسلحته، حتى تلك المحرمة دوليا على المدارس والمستشفيات في ظل سيناريوهات حقيرة مبتذلة.

الأمر الذي لا لبس فيه في خضم هذه اللحظات الفارقة، أن الشعب الفلسطيني أبدى كما عودنا دائما قدرة عظيمة على الصمود ومجالدة الشدائد، متسلحا بما تعلمه من دروس النكبة ما يجعله ثابتا على أرضه، صامدا فيها، متمسكا بمقاومته.

علينا من أجل ذلك أن نتبنى مقاربات جديدة ومبتكرة، كتقنيات التحقيق الصحفي المتقدمة، واعتماد وسائل التواصل الاجتماعي -منصة X التويتر سابقا على رأسها- للحديث بشكل مستمر عن القضية، الوقوف على أحداثها حدثا بحدث ونقل مستجداتها؛ فقد صارت الساحة الإعلامية الحقيقية للقضية، صوت من لا صوت له، والواجهة التي تحارب بها وسائل الإعلام الكاذبة، لإبراز الواقع المرير الذي يعايشه الشعب الفلسطيني ويواجهه كل يوم وفي كل لحظة. وكذا أن نسعى لإبقاء الحقائق في سياق دولي كما هي عليه الآن.

الأمر الذي لا لبس فيه في خضم هذه اللحظات الفارقة، أن الشعب الفلسطيني أبدى كما عودنا دائما قدرة عظيمة على الصمود ومجالدة الشدائد ومجابهتها بقلب قوي وإيمان ثابت، متسلحا بما تعلمه من دروس النكبة ما يجعله ثابتا على أرضه، صامدا فيها، متمسكا بمقاومته. وهو ليس بشيء غريب عن تكوينه النفسي والذهني والجسدي. وقد أثبت ذلك أكثر في ظل هذه الحرب وغير معتقدات وأفكار عالم بأسره؛ فالعالم قبل السابع من أكتوبر ليس أبدا العالم بعده ومن الإجحاف أن يكون.

ثم إن إذعان الكيان الصهيوني لمطالبه وقبوله بشروط الهدنة بذل كبير وخسائر أكبر، حتى لو كانت محدودة، فهي مكلفة جدا لحساباته، بسبب محدودية الوجود البشري الذي يكون العمود الفقري لمجتمعه. فالشعب الفلسطيني بهذا ينقل رسالة إلى العالم أن نوعية السلاح ليست الفائز دوما في معركة الإرادات، وإنما الإيمان المتأصل فيهم بقضيتهم يجر إليهم النصر جرا، التفكير الاستراتيجي المتأني والمتزن، والاستعداد المطلق والمتجرد للتضحية، الأدمغة الطموحة والطاقات الثقافية الخلاقة.. كل هذا يغير موازين الفوز ويقلب طاولة النصر في النهاية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.