شعار قسم مدونات

المقاومة.. جدوى مستمرة

كتائب الشهيد عز الدين القسام من صفحتهم على تيليجرام
عناصر من كتائب الشهيد عز الدين القسام (الجزيرة)

على قائمة المدن السياحية تتربع عاصمة تعد من أجمل الوجهات العالمية؛ لبديع طبيعتها وعظمة سرديتها التاريخية، ففي سرايفو –عاصمة البوسنة والهرسك– أنت لا تسير في بقعة من جنان الله في الكون فحسب، بل في صفحة من صفحات التاريخ، وإن كانت البلاد تحفظ إرثها فوق أرضها وبين شوارعها، فإن سراييفو حفظته تحت يابستها، وإن كان كتب على جدرانها "مرحبا بكم في جهنم" دلالة على قساوة حربها مع الصرب، فإن نفقا تحت أرضها استطاع أن يكون كما يسمى على قوائم الأماكن التي ينصح بزيارتها "نفق الحياة" وسببا للنجاة.

كان أهل سراييفو ينتظرون طرود غذاء تتساقط من السماء، فإذا هي تخرج من الأرض، حيث جاءت الفكرة لحفر نفق ما بين منطقتين يسيطر عليهما البوسنيين "دوبرينيا وبوتمير"، فكان الصرب يحاصرون مطار سراييفو وكان النفق يمضي من تحت أرض المطار نفسه.

ارتكب الصرب في سراييفو جرائم عدة، حيث تشير التقارير إلى قرابة 200 ألف قتيل ونزوح نصف السكان -الذين كانوا 4.5 ملايين-، وآلاف حالات الاغتصاب وتدمير مئات المساجد وحرق الكتب والمخطوطات، أما أصعب ما شهدته سراييفو فحصار يعد الأطول في التاريخ الحديث؛ إذ سيطر الصرب على مطارها في إبريل، نيسان-1992 حتى فبراير، شباط-1996، فمنع ادخال الغذاء والدواء، وتحولت إلى ساحة موت، واكتفى العالم بالنظر.

كان أهل سراييفو ينتظرون طرود غذاء تتساقط من السماء، فإذا هي تخرج من الأرض، حيث جاءت الفكرة لحفر نفق ما بين منطقتين يسيطر عليهما البوسنيين "دوبرينيا وبوتمير"، فكان الصرب يحاصرون مطار سراييفو وكان النفق يمضي من تحت أرض المطار نفسه.

بدأ تنفيذ النفق في ديسمبر، كانون الأول 1992، واكتمل بعد 104 أيام من الحفر المتواصل، أما قصص إتمامه فمبهرة لا اتساع لسردها مؤرخة مذ ابتدأت الفكرة، إلى أن كان الحفر بالمجاريف والمعاول، وحتى بدأ نقل الطرود والأشخاص، وأما الأهم فكان توقيت إنجازه الذي جاء منقذا للمقاومة؛ إذ كان جبل إيغمان الإستراتيجي في المدينة على وشك السقوط، حتى دخل المقاتلون عبر النفق لدعم المعركة ومنع تقدم القوات الصربية، فحمي الجبل، وتغير وجه المعركة.

بعد انتهاء الحرب أصبح بيت كولار الذي تم اختياره لهذه المهمة والنفق معه متحفا يقصده السياح لمعايشة حكاية النفق الذي أنقذ مدينة.

وهكذا ستكون أنفاق غزة بعد الفتح -بإذن الله-.

كل ما يعلم حول الأنفاق تصريحات قامت بها المقاومة، أو تقديرات قدمها الاحتلال عبر دراسات عسكريين ومتخصصين، تقول دافني ريتشموند خبيرة حرب الأنفاق في جامعة ريشمان الإسرائيلية: أنها تشك في معرفة أي شخص لعدد أميال الأنفاق.

على مدى سنوات شكلت أنفاق غزة تحديا عسكريا للكيان الصهيوني الذي رغم ما يستعرضه من قدرات استخبارية إلا أنه لم يستطع السيطرة على شبكة يعتقد بأنها تضم 1300 نفق، يصل بعضها إلى 70 متر تحت الأرض. كان الهدف الرئيسي لهذه الأنفاق تهريب البضائع إثر الحصار على غزة والذي شدده الاحتلال عقب فوز حماس في الانتخابات التشريعية عام 2006، فشمل الحصار دخول المحروقات ما بين منع وتقنين وكذلك السلع والصيد من عمق البحر وغلق المعابر.

حاول الغزيون كسر الحصر مرارا وحاولت سفن ذلك تحت عنوان "أسطول الحرية"، وبين منع وقصف ودخول بسيط بقي الوجع الإنساني متصاعدا؛ يلفظ مرضى أنفاسهم الأخيرة قبل أن يأتيهم إذن الخروج من المعبر، وتقطع الكهرباء ساعات طويلة، ويمنع الغزيون من أبسط الحقوق، فكانت الأنفاق ملاذا لا للبضائع وحدها بل للمقاومين وعدتهم، وبات الاحتلال يعتبر الأنفاق رعبا وتهديدا، بينما يجده أهل غزة رئة ومنفذا.

كل ما يعلم حول الأنفاق تصريحات قامت بها المقاومة، أو تقديرات قدمها الاحتلال عبر دراسات عسكريين ومتخصصين، تقول دافني ريتشموند خبيرة حرب الأنفاق في جامعة ريشمان "إحدى جامعات الكيان الصهيوني" أنها تشك في معرفة أي شخص لعدد أميال الأنفاق.

شكل إنهاء الأنفاق هدفا رئيسيا للاحتلال وبذل لذلك كثيرا من المحاولات والمعدات. في 2013 أصيب 6 جنود للاحتلال، أحدهم أصابه العمى إثر انفجار نفق أثناء محاولتهم إدخال كاميرا تجسس داخله. أعادوا المحاول في 2014 فلم يستطيعوا، وفي 2018 دمر الاحتلال بئرا امتد أمتارا ظن أن غواصو حماس كانوا يتسخدمونها، ورغم ذلك لم يجدوا شيئا واضحا وبقيت الأنفاق غموضا لم يكتشف.

لم تثمر "ثورة البراق" عام 1929 فتحا لكنها شقت للمقاومة الفلسطينية دربا، ولم يستطع "عز الدين القسام" أن يطرد المحتل لكن اسمه بقي مزلزلا له حتى يومنا هذا.

منذ ابتداء عملية "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر، تشرين الأول من العام الجاري أعاد الاحتلال إعلانه بأنه ينوي القضاء على الأنفاق، وأعلن تسلحه بقنابل كيميائية ومعدات تقنية وروبوتات، وأكد معرفته بأماكن الأنفاق وزعم بتحديد مراكزها تحت المستشفيات، وبعد ما يفوق أربعين يوما على العدوان ما زالت أنفاق غزة لغزا عصيا على الاحتلال.

قالت يوتشيفيد ليفشيتز -مستوطنة مسنة، أفرجت عنها حماس- أنها مشت لأميال يما وصفته "الشبكة العنكوبية" من الأنفاق؛ فأثار كلامها رعبا بين مستوطني الكيان الصهيوني مما اسموه "غزة السفلى" أو "المترو"، ووصف أحد ضباط جيش الاحتلال الأنفاق قائلا: "أعتقد أن الأمر أكثر تعقيدا من شبكة أنفاق قطارات مدينة نيويورك"، ويوما تلو آخر يزداد الاحتلال توغلا لا في أنفاق غزة بل في جرائمها، وأما العالم فيزداد توغله في الصمت المطبق دون التحرك الحقيقي، تماما كما صمتوا أمام حصار سراييفو.

مع طول أيام الحرب على غزة وتضاعف أعداد الشهداء، ووجع المشاهد ما بين أطفال الخداج وكبار السن ووجع الأمهات وقهر الرجال والجثث الملقاة في الطرق والأنقاض التي لا يدري متى لفظ الناس أنفاسهم تحتها، يتصاعد شعور الناس بالعجز والقهر؛ إذ ما الذي يوقف ذلك كله؟ وما جدوى ما نفعل؟ أتحل القضية بالكتابة؟ أم تملك مظاهرة أن توقف حربا؟ أنكتفي بالدعاء؟ أم المقاطعة؟ أم أن قدوم يوم القيامة وحده ما ينهي هذا الظلم؟

يشرب العَطِش ما يملك من ماء حتى وإن كان لا يكمل ريه؛ إنه التشبث بالحياة، وكذلك المقاوم الذي لا ينتظر اكتمال الأثر، بل يستثمر كل ما يملك متشبثا بأن يبقى الحق الذي يحمله حيا صامدا.

إن المقاومة جدوى مستمرة لا انتهاء لها إلا بنصر أو شهادة، إنها سنة الله في كونه بأن تكون ذات الشوكة طريقا لتمكين الحق، طريقا معبدة بالشهداء الذين يحيي الله بهم أنفسا، ويحفظ بلادا، ويمحق كيد الكافرين.

لم تثمر "ثورة البراق" عام 1929 فتحا لكنها شقت للمقاومة الفلسطينية دربا، ولم يستطع "عز الدين القسام" أن يطرد المحتل لكن اسمه بقي مزلزلا له حتى يومنا هذا. استطاعت صواريخ العدو أن تغتال الشيخ أحمد ياسين، لكنها لم تستطع أن تمحو أثره فكل المقاومة اليوم نحسبها في ميزانه، حتى الصواريخ التي تطلقها المقاومة تحمل اسمه. الكوفية الحمراء التي يلبسها الملثم تحمل أثر المقاومين؛ تشبه كوفية عماد عقل الذي شكلت عملياته الفدائية نقلة نوعية للمقاومين من بعده، ولو أردنا تعداد المواقف لما انتهينا، لكنه اليقين بأن كل خطوة في طريق التحرير ستعقبها خطوات، وأن المحتل يخاف حتى حروفك فاستحدث خوارزميات تحجب كتاباتك.

إن المقاومة جدوى مستمرة لا انتهاء لها إلا بنصر أو شهادة، إنها سنة الله في كونه بأن تكون ذات الشوكة طريقا لتمكين الحق، طريقا معبدة بالشهداء الذين يحيي الله بهم أنفسا، ويحفظ بلادا، ويمحق كيد الكافرين.

أنت تحمل وعدا ربانيا لا شك فيه عقائديا، لن تقلب خطواتك المعادلة لأنها راسخة من عند الله عز وجل، الحق منتصر والباطل زائل، إلا أن ما تفعله هو أن تنال أنت بركة السهم الذي تضعه دعاء أو كلمة أو كتابة أو غيره. أطلق عنان روحك وتفكيرك وكل ما لديك فصاحب فكرة الهبوط بالباراشوت قدم فكرة غريبة، وكذلك صاحب فكرة النفق وغيره، إلا أن ذلك كله أصبح حقيقة بعد سعي وعمل؛ فابق على العهد واعلم أن المقاومة درب لا انتهاء له؛ فلا تعجز.

يقولون: "هنالك نور في آخر النفق"، إلا أن المقاومة جعلت الأنفاق كلها نورا من أولها إلى آخرها، فكن شعاعا في ضياء أنفاق الحياة والمقاومة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.