شعار قسم مدونات

ما بعد طوفان الأقصى.. ثقافة الغيتو ولعنة الكيبوتس

عشرات الشهداء والجرحى في قصف تل الزعتر (الجزيرة)

في خطابه الأخير وصف الناطق باسم كتائب القسام أبو عبيدة شتات الأرض ممن حملتهم سفن التهجير الأوروبية نحو فلسطين، بخريجي معازل الغيتو مع ما يقترفونه من إبادة جماعية لا تختلف كليا عن ما تسرده الرواية الغربية من جرائم النازية ضد اليهود، تصريح أعاد للواجهة ماهية دولة الاحتلال الإسرائيلي، ومستقبلها الذي تؤرقه تساؤلات وجودية عن إمكانية إذعان الاحتلال إلى السلام الدائم، سلام ليس بمقدور المجتمع وقوانينه، ولا الذين يملكون أدنى التزام أخلاقي تجاه شعوبهم، أن يلزموا أبناء ثقافة الغيتو به، ليصبح الاحتلال الصهيوني معزولا ليس بأزقة برلين أو في شوارع روما، بل تحاصره شعوب العالم الحرة أينما لاحت رايته، وتفضحه ترانيم المقاومة التي تدك أسطورة دولة الكيبوتس.

لخّصت تبعات عملية طوفان الأقصى تاريخ أسطورة دولة المستوطنات في صورة أكثر قتامة ووحشية، إذ لا يبدو أنّ الاحتلال سيتوقف عن هتك المدنيين وقصف المستشفيات واستهداف البعثات الدولية، وهو إذ يفعل ذلك إنما يحاصر ذاته وكيانه بجرائمه التي لا يمكن لها أن تتقادم

عزل السردية الصهيونية

كان لإسرائيل منذ نشأتها الدعم الكامل من الكولونيالية الغربية الموغلة في التوحش، وكان ثمن ذلك الدعم الكثير من القتلى والمهجرين من فلسطين التاريخية، واستمر الوضع القائم كما تصفه الإمبراطورية ضمن استراتيجية التغيير الشامل للشرق الأوسط، ومع خطط التقسيم التي طالت دولا كالسودان وغيرها ممن تحركت المجموعات الوظيفية للغرب في تأجيج الصراع الداخلي فيها، ازدادت ضراوة ووحشية الاحتلال الصهيوني مع كل حرب تخوضها المقاومة الفلسطينية ضده، ومع كل جولة يساق لها الاحتلال صاغرا وذليلا، ترتفع الأصوات المناهضة في شتى بقاع العالم، وحيث وطنت الصهيونية سرديتها الملفقة، خرجت الملايين من الجماهير تحمل راية الحقيقة والإنسانية، داعية إلى تصفية آخر معاقل الاستعمارية الغربية.

وبالعودة إلى الحصار الذي عانى منه الفلسطينيون في غزة طيلة سنوات من القهر والخذلان، أصبح من الضروري اليوم دعم التحركات الجماهيرية والنظامية التي كونت رأيا عالميـا مغايرا تماما لما كانت تروجه الآلة الدعائية الإعلامية الغربية، ساحات الحرب تغيرت مع نضوج الوعي الغربي تجاه المسألة الفلسطينية عبر فضاءات رسمت مسارات أكثر انسيابية واتزانا للقيم الإنسانية المشتركة، ما سمح بتشكيل ضغوطات شعبية على الساسة الأوروبيين الذين لا يملّون من اظهار ولائهم المطلق ليس لإسرائيل الدولة فحسب، بل تعداه الدعم الصريح لآلة القتل الصهيونية.

نستعيد أحداث الحرب الأوكرانية الروسية وكيف بدا العالم حينها متضامنا بشكل يفوق التصور الإنساني لطبيعة النزاع، ومدى غطرسة الغرب في استفزاز دول العالم المناوئة للقطبية الواحدة، حينها أرادت الولايات المتحدة الأمريكية وشركاؤها الأوربيون عزل روسيا دوليا بترسانة من العقوبات السياسة والاقتصادية، تزامنت مع دعم عسكري سخي للأوكرانيين الذين لم يدركوا فاتورة الدّين الذي ستتحمله أجيالهم للمؤسساتية الغربية، ومع أنّ العقوبات لم تلجم الروس عن الاستمرار في حربهم، إلا أنّها أثارت نقطة جوهرية حول جدية النظام الدولي بمؤسساته المالية والقانونية في لعب دور أكثر عدالة وديمقراطية مع مختلف القضايا الحرجة، إذ طرحت وقتها إمكانية توسيع مجلس الأمن بسبب المواقف الصينية والروسية ضدها، ومع أنّ الحرب لم تنته بعد لكنها أزيحت من وسائل الإعلام الدولية لما استجد من حدث أكثر خطورة على المنطقة العربية، فبعد السابع من أكتوبر بات العالم يرقب "صراعا وجوديا" بين من يملك الحق في الحياة، ومن يدعي القيم الإنسانية.

لخّصت تبعات عملية طوفان الأقصى تاريخ أسطورة دولة المستوطنات في صورة أكثر قتامة ووحشية، إذ لا يبدو أنّ الاحتلال سيتوقف عن هتك المدنيين وقصف المستشفيات واستهداف البعثات الدولية، وهو إذ يفعل ذلك إنما يحاصر ذاته وكيانه بجرائمه التي لا يمكن لها أن تتقادم، وخريجوا معازل الغيتو لم يستطيعوا الاستفادة من دروس التاريخ، بل يؤكدون للعالم أجمع أنهم كانوا طرفا في صناعة القتل والتهجير والدمار، وفكرة إسرائيل الدولة الحضارية والديمقراطية، لن تقوم لها قائمة بعد عملية طوفان الأقصى، والغرب مع نقص حيلته إزاء التصدع الذي نال من الدولة الوظيفية لا يملك الخيارات الحضارية في مواجهة استمرارية الضغوط الشعبية والسياسية المناهضة لسردية الاحتلال، سوى سنّ قانون تجريم معاداة الصهيونية.

قد تؤلمنا صور النازحين من غزة على وقع الانفجارات والقصف المتكرر، كما أنّ أعداد القتلى الفلسطينيين لم تكن يوما رقما في سجل الإنسانية، بل كانت فاصلا بين سردية المحتل وصلابة المقاومة في تعاطيها مع المشاريع الاستيطانية وصفقات التطبيع

دولة الكيبوتس

في الداخل الإسرائيلي تبدو جراح مجتمعات الكيبوتس تلقي بلعناتها المظلمة على كينونة الدولة اليهودية، إذ إنّ عملية طوفان الأقصى شكلت تحولا جذريا في استقرار منطقة غلاف غزة، إذ إنّ عصب الاحتلال الصهيوني قائم على الاستيطان والمظلومية التاريخية، وما بين الفكرتين تعشعش الثقافة الإسرائيلية المناهضة للفلسطينيين باعتبارهم تهديدا وجوديا لدولة الاحتلال، وما قدمته الصهيونية طيلة سنوات من التهجير والإبادة المنظمة للفلسطينيين، لم يكن سوى ميراث ثقافة غربية استطاعت الصهيونية أن تجسّدها باسم من حملتهم على الأفران، ونفت بعضهم داخل معازل الغيتو.

لا يقوى الإسرائيليون على تقديم الأرقام الحقيقية للجنود المقتولين، كما أنّ اقتصاد الكيان المحتل يترجح بين خسائره الفاضحة وهروب رؤوس الأموال في وقت تتداعى دعوات مقاطعة البضائع الداعمة للاحتلال، وما ستحدثه الهزات الاقتصادية من تبعات على مجتمعات الكيبوتس، لا يقل ضراوة عن قذائف الياسين التي تدك مضاجع مرتزقة أوروبا.

قد تؤلمنا صور النازحين من غزة على وقع الانفجارات والقصف المتكرر، كما أنّ أعداد القتلى الفلسطينيين لم تكن يوما رقما في سجل الإنسانية، بل كانت فاصلا بين سردية المحتل وصلابة المقاومة في تعاطيها مع المشاريع الاستيطانية وصفقات التطبيع، ومثلما يألم أصحاب الأرض والحق، فإنّ المحتل لا مواسي له في ألمه، ولا نصير له في مصابه، ولا تاريخ له، وهروب الآلاف ممن استوطنوا غلاف غزة، قد فضح هشاشة المشروع الاستيطاني الغربي في الشرق الأوسط، فالتقارير الإسرائيلية عن مجتمعات الشتات الموطنة تؤكد أنّ ما يفوق 20 بالمئة يحملون الجنسيات المزدوجة، لا يثقون في نظام الفصل الصهيوني.

في المقابل ومع تفشي ثقافة التهجير والكيبوتس الصهيونية لدى صناع القرار الغربي، بدت فكرة توطين الفلسطينيين في الدول الأوربية بدل العربية أكثر أريحية وإثارة، مع ما يمكن تقديمه لهم من ضمانات اقتصادية واجتماعية، ولعل الغرب الذي أغلق أبواب الهجرة أمام الملايين ممن هجرتهم آلة القتل الأسدية، لا يتذكر كيف كان خفر السواحل الإيطالي يذيق قوارب الهجرة غير النظامية ظلمات البحر الفاجعة، والفلسطينيون ببسالة مقاومتهم يدركون حجم المؤامرة الدولية، التي تريد استنساخ كيبوتسات غربية لهم في الملاذات الآمنة للصهيونية، كي يتم الاجهاز على المسألة الفلسطينية.

إنّ ما بعد طوفان الأقصى ليس حدثا عابرا، أو سردية استثنائية، ولا مجرد عنوان لأسطورة تاريخية، إنّها بداية النهاية، حيث يَعُد الاحتلال أيامه الأخيرة، وإن بدت تلك الأيام بتعاقب ليلها ونهارها، بقنابلها الحارقة، وانتهاكاتها الجسيمة، بصرخات نساءها وأطفالها، بوجوهها العابرة نحو منافيها، بالخذلان الذي لَحِق أشياع فراعنة الأمة، فإنّه صبر ساعة، إمّا النصر أو الشهادة، والاحتلال زائل لا محالة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.