شعار قسم مدونات

وهم الخلاص الفردي!

الاختبار الحقيقي هو في أن نقف في وجه المفسدين ما استطعنا أن نقول "لا" ما استطعنا (وكالة الأناضول)

غزة في وقت ما أثناء تسعينات القرن الماضي..

أذكر سلسلة طويلة من الدبابات الصهيونية تعبر أمامي شارعاً ترابياً ـ كنت طفلة في الخامسة أو السادسة ذاهبة مع ابن عمي الأكبر مني بعام أو عامين لأوصل شيئاً لبيت عمتي. توقفنا وقال لي وهو الذي يعيش في غزة وأنا الزائرة: توقفي وانتظري. جلسنا إلى جانب الطريق حتى مر الرتل. كل ما أذكره أنني شعرت بأنني كائن في منتهى الصغر وأن تلك الجبال الحديدية يمكن أن تبتلعني في أي لحظة.

تعبت لأنني شهدت بأم عيني كيف تساقطت أحلام جيل كامل كان يخطط لمستقبل أفضل ويبني كيانات صغيرة ومؤسسات فكرية وثقافية واجتماعية تساهم في هذا البناء، تساقطت أمامنا تلك الأحلام كفراشات محترقة. لم تتساقط فقط، بل أحرقت معها كل شيء

كنت مع جدتي في السوق، فجأة علت أصوات الناس وصراخهم. يبدو أن جنود الاحتلال قادمون. قادت جدتي عربة الكارة التي تجرها الحمارة بسرعة لم أعتدها ودخلت بنا طرقاً غريبة علي هرباً من مجهول بقي وراءنا.

جنديان صهيونيان يمران في حارتنا. نختبئ منهم خلف سور سطح البيت وننتظر. جرأة الأطفال تجعلنا ببلاهة نلتقط حصى صغيرة ونلقي بها عليهم فتقع إحداها على خوذة أحدهم. ننكمش رعباً من منظر السلاح والرأس التي تبحث في السماء عن مصدر الحصى.

أقف وعائلتي منتظرين الدخول من بوابات معبر إيريز. الجو حار وأختي الرضيعة تتصبب عرقاً. نجلس على الرصيف قليلاً ونقف بين الممرات الحديدة تارة. يعرض علينا جندي صهيوني الماء فنقول لبعضنا: "ماحدش يشرب منه، بكونوا حاطين فيها سم".

منذ عامين أو ثلاثة أقنعت نفسي أنني يجب أن أركز كل طاقتي على الاهتمام بشؤوني وتربية أطفالي والاعتناء بأبحاثي الخاصة. توقفت عن متابعة الأخبار بصورة كبيرة، صرت أختار ألا أطالع صوراً أو مقاطع مؤلمة لما يحدث في العالم. كان عذري أنني أفعل ذلك حتى أتمكن من التركيز على ما يسعني التأثير فيه. لكن الحقيقة هي أنني تعبت. تعبت لأسباب عديدة. تعبت لأنني شهدت بأم عيني كيف تساقطت أحلام جيل كامل كان يخطط لمستقبل أفضل ويبني كيانات صغيرة ومؤسسات فكرية وثقافية واجتماعية تساهم في هذا البناء، تساقطت أمامنا تلك الأحلام كفراشات محترقة. لم تتساقط فقط، بل أحرقت معها كل شيء. تعبت لأن الحياة بطبيعتها متعبة ومضنية، ولأنني لم تعد لدي القدرة في نهاية اليوم وبعد أن أنتهي من كل مسؤولياتي أن أضع جهداً في محاولة فهم هذا العالم مرة أخرى.

لقد سافرت إلى بلاد " الحرية والعدالة" ورأيت السكان الأصليين يموتون في السجون ويعانون من القهر والظلم كما نعاني. لقد شهدت بعيني وسمعت بأذنيّ الكذب في محطات التلفاز والخطابات المحرضة على المسلمين مرة وعلى المهاجرين مرة.

أصدقكم القول بأنني تقبلت بكل سلبية أن هذه الحياة بطبيعتها غير عادلة. أنها سياق تخرج فيه كل فظائع البشر وأنه لا يمكنني فعل شيء بهذا الشأن سوى ألا أشارك فيها، أن أسعى لعدم تحمل الذنب وأن أقف على رصيف وأشاهد.

سامحوني يا أطفال سوريا الذين كلما مرت من أمامي صوركم تجاوزتها دون أن أدقق النظر. كنت أظن أنني أحافظ على طاقتي حتى أتمكن من أداء مهامي. سامحوني يا أهل السودان وليبيا، ويا أهل الروهينجا والإيغور

ثم استيقظت يوم السابع من أكتوبر وبدأت شيئاً فشيئاً كلما توالت الأخبار أدرك حجم ما هو قادم. بدأت أستيقظ من غفلة طويلة. وجدتني أردد: سامحني يا رب، اغفر لي. سامحوني يا أطفال سوريا الذين كلما مرت من أمامي صوركم تجاوزتها دون أن أدقق النظر. كنت أظن أنني أحافظ على طاقتي حتى أتمكن من أداء مهامي. سامحوني يا أهل السودان وليبيا، ويا أهل الروهينجا والإيغور. سامحوني يا شعوب الكونجو ومالي. فلتسامحني كل روح أدرت وجهي بعيداً عنها لأن ألمها كان غير مناسب لي في تلك اللحظة.

أستيقظ الآن كل يوم وأنا لا أعرف، هل سأجد أهلي في غزة أم لا. أشعر بالرعب من صوت الهاتف لأنني لا أعرف ما الخبر القادم. أتوجه إلى الله وأنظر إلى البشرية وأنتظر أن يقف العالم مع أهل غزة، أنتظر أن يشعر بهم البشر وأن يوقفوا ما يمرون به. يغشاني شعور بالعار عندما أتخيل من الناس من يقول الآن كما قلت سابقاً ويشيح بوجهه بعيداً عن صور الضحايا وصرخاتهم.

كنت مؤمنة منذ زمن طويل أن امتحان البشر على هذه الأرض امتحان أخلاقي، امتحان بين كتلة الخير وكتلة الشر.  إن إيماني بالله تعالى يوصلني إلى هذه النتيجة في كل مرة. نحن ـ الكتلةَ البشريةَ ـ في موضع اختبار حتى يثبت كل منا جدارته وينتشل نفسه من أعماق جهنم. الطريقة الوحيدة لتحقيق ذلك هي بأن نقف في وجه الإفساد. ليس كافياً أن نكون شرفاء لا نشاركهم، ليس كافياً أن نكون طيبين نعمل الخير، إن الاختبار الحقيقي هو في أن نقف في وجه المفسدين ما استطعنا، أن نقول "لا" ما استطعنا، أن نعمل حتى نستطيع أن نقول "لا"، وأن نمتلك من القوة ما يجعل قولة لا هذه ذات تأثير.

صرت الآن متقبلة لحقيقة جديدة، أن هذه الدنيا هي جحيم المؤمن لأن "المؤمن" لا تطمئن نفسه مع وجود الظلم، ولأن هذا الصراع الذي نشأ منذ بدأ الخلق بين الخير والشر لن ينتهي حتى يأذن الله. عندها فقط ينتهي هذا الجحيم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.