شعار قسم مدونات

عن الأنفاق المُقاوِمة.. والأرض التي تحارب مع أهلها

تحتضن الأنفاق المُقاوِمة الممتدة داخل أرض غزة بل تحت مياه بحرها أيضا (الجزيرة)
كان على أهل المدينة ألا يستسلموا وأن يشقوا لأنفسهم نفقا ليتجاوز القوات المحاصرة (الجزيرة)

لا يمكن أن تزور مدينة سراييفو، عاصمة جمهورية البوسنة والهرسك، دون أن تخطيء آثار الحرب المدمرة على المدينة الهادئة، وذلك على الرغم من مرور أكثر من ربع قرن على نهايتها، ليس فقط

الآثار المادية للمعارك كآثار المقذوفات النارية على بعض المباني القديمة، ولكن كذلك أثرها في الوعي الجمعي المشترك لأهل سراييفو، حين تأتي ذكرى الحرب وفترة الحصار المريرة، والتي امتدت

من إبريل، نيسان 1992 وحتى فبراير، شباط 1996، أو أسماء الشهداء الذين قضوا خلال هذه الفترة من الأهل والجيران وأصدقاء الطفولة والدراسة، وتجاوز عددهم 11 ألفا، أثناء النقاشات العادية مع أهل المدينة عرضا وبلا تكلف، وكأنهم صاروا جزءا لا يتجزأ من هوية المدينة وأهلها.

الأنفاق المُقاوِمة هي الندوب التي تخلفها الأوقات العصيبة على وجه المدن، وفي ذاكرة شعوبها، إنها إعادة تشكيل لتضاريس أرضٍ طبيعتها سهلة منبسطة، غير متهيئة لحرب أو قتال

وخلال هذا الحصار، الذي سهله طبيعة المدينة، القابعة في سهل محاط بجبال تشرف عليها من كل جانب، وأطال من أمده تواطؤ النظام الدولي، وتقاعس الحكومات العربية والإسلامية، كان على أهل المدينة ألا يستسلموا، وأن يشقوا لأنفسهم نفقا ليتجاوز القوات المحاصرة، ليكون موردا للغذاء والدواء والوقود، وكذلك الإمدادات العسكرية والمقاتلين، وهو النفق الذي مازال جزء منه قائما بجوار مطار سراييفو، ويعتز به أهل المدينة دليلا على صمودهم وعدم استسلامهم، وحولوه إلى متحف يعرضون فيه صور من قاموا بحفره، ومقاطع مصورة لعملية الحفر والإمداد البطولية التي تمت من خلاله، وأطلقوا عليه نفق الحياة أو نفق الأمل.

أشار إلى فتحة مسيجة داخل هذا الكهف ليقول إنها مدخل لشبكة من الأنفاق المتصلة بالقلعة المشرفة على مدينة غازي عنتاب (الجزيرة)

وفي سياق آخر، وخلال زيارة عاجلة لمدينة بجنوب تركيا تدعى غازي عنتاب، والشهيرة بقلعتها التاريخية، حرص المضيف أن يصحبنا إلى إحدى المقاهي بوسط المدينة، والتي تقع في داخل تجويف تحت الأرض، ككهف صغير، ثم أشار إلى فتحة مسيجة داخل هذا الكهف ليقول إنها مدخل لشبكة من الأنفاق المتصلة بالقلعة المشرفة على المدينة، وهذه الأنفاق أصولها قديمة، تعود للعصور البيزنطية، وأنها كانت بالأساس نظاما لتخزين وتوزيع المياه، إلا أنها -وفقا لما أوضحه هذا المضيف- كان لها دورٌ هامٌ في مقاومة المدينة للحصار الفرنسي خلال حرب الاستقلال بين عامي 1920-1921، والذي استحقت مدينة عنتاب بسببه لقب "غازي" أي المحاربة، ليصبح مقترنا باسمها، وعند المغادرة، رأيت بمطار المدينة عدة لوحات جدارية تشرح استبسال المدينة خلال فترة الحصار، وصورا لبعض رموز المقاومة فيها.

الأنفاق المُقاوِمة هي الندوب التي تخلفها الأوقات العصيبة على وجه المدن، وفي ذاكرة شعوبها، إنها إعادة تشكيل لتضاريس أرضٍ طبيعتها سهلة منبسطة، غير متهيئة لحرب أو قتال، لتكون أكثر وعورة ومناعة، إنها الجذور التي يمدها شعبٌ ما عميقا في أرضه ليتشبث بحقه في البقاء، إنها تآزرٌ بين الأرض والبشر في جهودٍ متضافرة من أجل المقاومة، إنها دليلٌ على أن شعبا ما عصيٌّ على الاقتلاع من وطنه.

إن أنفاق غزة لم تغير قواعد العمل المسلح ضد الاحتلال، أو تعيد رسم تضاريس المدينة الباسلة فقط، بل صارت من الآن فصاعدا جزءا من هويتها ومن ذاكرة شعبها

وفي لحظتنا هذه، وأنت تقرأ هذه السطور، تحتضن الأنفاق المُقاوِمة الممتدة داخل أرض غزة، بل تحت مياه بحرها أيضا، المئات -إن لم يكن الآلاف- من أبنائها المقاتلين من أجل حريتها، إذ تشير المعلومات الواردة عن هذه الأنفاق سواء من تصريحات قيادات المقاومة أو الباحثين والمحللين العسكريين أو حتى من بعض الرهائن المفرج عنهم، أنها تمتد لعدة مئات من الأميال، وأنها مجهزة لوجستيا وعسكريا لدعم أعمال المقاومة لعدة شهور، فإذا أضفنا إلى تفردها في السعة والامتداد، وإحكامها في التجهيز والبناء، كونها شيدت وغزة تحت الحصار الخانق منذ العام 2007، تأكد أننا أمام مشهد ربما غير مسبوق في تاريخ حركات المقاومة الوطنية.

إن أنفاق غزة لم تغير قواعد العمل المسلح ضد الاحتلال، أو تعيد رسم تضاريس المدينة الباسلة فقط، بل صارت من الآن فصاعدا جزءا من هويتها ومن ذاكرة شعبها، ومعلما أساسيا من معالم تاريخها، يحكي نضالها الأسطوري، ويغرس في وعي الأجيال القادمة من أبنائها كيف أن جذورهم راسخة وممتدة في هذه الأرض المباركة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.