شعار قسم مدونات

"السلبطة" الوظيفية ومجتمع المقموعين

"التسلبط" الوظيفي يتم تحت ضغط القوانين وطرق فهمها (بيكسلز)

في حياتنا اليومية نصطدم كثيراً بمن يريد فرض سيطرته وسطوته علينا، بدءاً من المنزل بين الزوجين مروراً بالمدرسة بين التلاميذ (وأظن أنه أخطرها، لهشاشة نفس الطفل وبراءة روحه، وبسبب تأثيرها على مستقبله بما يؤثر على مستقبل الوطن الذي سيكون هذا الطفل عماده في المستقبل)، وصولاً إلى العمل والوظيفة؛ وعلى هذا القسم (العمل والوظيفة) سيتركز أكثر حديث هذا المقال.

إن الأسباب الضمنية الحقيقية لدى نفس "المتسلبط" هي الرغبة في السيطرة والإخضاع والقضاء على الآخر، وهذا مصحوب بانعدام الحساسية تجاه حقوق الآخرين وحاجاتهم، ويضاف إلى ذلك إنكار المسؤولية عن النتائج المترتبة على السلوك المتعمد.

ويتلخص الوضع في مسيطر، بغير حق، يفرض سيطرته اليومية مصحوبة بعنف وقمع نفسي أو تربوي أو وظيفي أو اقتصادي أو جسدي، ويصبح الضحية مضطراً إلى العيش وهو يداري لكي لا يثير عليه غضب المتسلط، إنه يتحاشى كل ما يزعج هذا الأخير وفي الوقت ذاته يبحث عما يرضيه أو يدخل إلى نفسه السرور.

 كما يقول أحد ضحايا "السلبطة" الوظيفية: كل يوم كان الذهاب إلى العمل مثل الذهاب إلى الحرب، فالمكتب ساحة قتال حيث يقوم عدد من المديرين بالتناوب على إذلال الموظفين أو العاملين وتشويههم.

تشويه الضحايا

أما "التسلبط" الوظيفي فيتم تحت ضغط القوانين وطرق فهمها. وأكثر هذه "التسلبطات" خطورة واستتاراً هو "التسلبط" الوظيفي، ففي ساحات اللعب، وفي الشوارع المعتمة وفي المناطق المهجورة وساحات القتال يكون الأذى الذي يوقعه "المتسلبطون" مادياً في معظم الحالات، أما في مناطق العمل المنضبطة فإن الأذى يصبح نفسياً (من خلال النقد والتقليل من الأهمية) حيث لا يبدو الأذى للعين المجردة. لا يبدو.. إلا حين يعرف المرء كيف يلتقط الدلائل ويفسرها.

كما يقول أحد ضحايا "السلبطة" الوظيفية: كل يوم كان الذهاب إلى العمل مثل الذهاب إلى الحرب، فالمكتب ساحة قتال حيث يقوم عدد من المديرين بالتناوب على إذلال الموظفين أو العاملين وتشويههم.

هذا فيما يخص الموظفين في المكاتب وأماكن العمل "المحترمة"، فماذا يحدث مع العمال في الأسواق والأطفال العمال.. ماذا يصيبهم؟ ما حجم الأذى الذي يتعرضون له؟ وماذا يفرز هذا الأذى؟ إن أكثر مجرمي اليوم كانوا أطفالاً معنفين في بيوتهم أو مدارسهم أو أماكن عملهم بعد أن اضطرتهم ظروف الحياة إلى العمل وترك أماكن الطفولة الطبيعية في البيت والمدرسة،

"تَنبّهوا فإن كل كلمة تُلقى في أذن الطفل وكل بذرة عقيدة تُغرس في قلبه سيكون لها أثر ظاهر في مُقبل أيامه، وفي خلقه وفي سلوكه".

كيف سيكون تصرف هؤلاء في الوظيفة وأمكنة العمل وهم لا يملكون أي كفاءة إلا إخلاصهم في خدمة مولاهم؟!

الخوف من الضحية

والمثير أن "التسلبط الوظيفي"، في كثير من الحالات، ينبع من خوف المتنمر من أن الضحية يمكن أن يكون مصدر خطر عليه أو على وضعه الوظيفي فيميل دوماً إلى سحق الآخر وتحقيره وتهديده وإخافته.

وهنا نذكر ما قاله الكواكبي: وكلما كان المستبد حريصاً على العسف احتاج زيادة جيش المتمجدين العاملين له والمحافظين عليه، واحتاج إلى الدقة في اتخاذهم من أسافل السافلين الذين لا أثر عندهم لدين أو وجدان.

فكيف سيكون تصرف هؤلاء في الوظيفة وأمكنة العمل وهم لا يملكون أي كفاءة إلا إخلاصهم في خدمة مولاهم؟!

يقول تيم فيلد في كتابه المتنمر تحت النظر: إن المتنمر في وضعه القيادي أو الرئاسي يشعر بأنه غير مؤهل، أو أن الآخرين مؤهلون أكثر منه، أو أن مؤهلات جديدة قد بدأت بالتسرب إلى مكان العمل، ومن ثم فالضحية يمثل تهديداً، بينما قد يكون الضحية غافلاً تماماً عن الأمر.

إن انعدام الأمان وانعدام الثقة يولدان لدى المتنمر الرغبة في السيطرة على الآخر باستخدام أساليب عدوانية مادية أو نفسية، فالمتنمر يبحث عن تعزيز ثقته بنفسه ليس بتنمية قدراته هو، بل بإخضاع قدرات الآخر وتصغيرها حتى تصير أقل من قدراته هو، وبحيث يصل إلى الشعور بالرضا عن نفسه.

ويشتمل تعبير "التسلبط" الوظيفي على منطقة واسعة من التصرفات، من الامتناع الدائم والمتواصل عن الاعتراف بالإنجاز، بل يصل الأمر في كثير من الأحيان إلى إنكار إنجازات الضحية أو التقليل من أهميتها وتحقير ذات الضحية والنيل منها عبر السلوك المهين والعداء العلني مثل الصراخ على الموظف وإهانته أو تهديده العلني أمام زملائه.

"المتسلبط" هو القانون، هو الذي يغيِّب القانون، وهو الذي يستخدم القانون حسب الموقف الذي يرى نفسه فيه، ولا شيء يمكن أن يثيره إلى الدرجة القصوى إلا محاولة المرؤوس تذكيره بالقانون، فهو يرى أنه يحكم الآخرين بمزاجه ومن دون قدرة لأحد على مساءلته

"المتسلبط" هو القانون

ولا حاجة إلى كثير من التدقيق لمعرفة أن "تسلبط" هذا المسؤول لا يتم إلا في غياب معايير وظيفية في العمل. "فالمتسلبط" هو القانون، هو الذي يغيِّب القانون، وهو الذي يستخدم القانون حسب الموقف الذي يرى نفسه فيه، ولا شيء يمكن أن يثيره إلى الدرجة القصوى إلا محاولة المرؤوس تذكيره بالقانون، فهو يرى أنه يحكم الآخرين بمزاجه ومن دون قدرة لأحد على مساءلته، وهذا يعني أن الثواب والعقاب مرتبطان برضاه عن المرؤوس، وليس بحق هذا المرؤوس أو نتيجة عمله، فبقاء الموظف المرؤوس في وظيفته (استمراره في عمله) منة من رئيسه.

وكذلك مكافآته وعقوباته مرتبطة بالرضا والسخط وليس بالخطأ أو الإتقان، وهذا يضع المرؤوس في حالة يسعى من خلالها لنيل الرضا الشخصي الذي لا يرتبط دوماً بالعمل، بل يرتبط بالولاء والخدمة الشخصية والتغاضي عن الأخطاء.

المسؤول المقموع من قبل من هم أعلى منه سلطة يتحول إلى آمر قامع في دائرة نفوذه، والمواطن المقموع يتحول إلى زوج قامع لزوجته وأولاده، والمرآة المقموعة تتحول إلى أم قامعة أو جارة متلسبطة..

الاستبداد يصنع مجتمع المقموعين

وهذا ما يصنع مجتمع "السلبطة" ثم تميل الدائرة إلى الانغلاق، فالاستبداد يعتمد على ضعفاء النفوس، الذين تكون دناءتهم وصَغارهم هما أفضل أوراقهم الثبوتية، يتبوأ هؤلاء المراكز القيادية في الدولة والجيش والعمل، وبما انهم لا يعتمدون على كفاءاتهم وليس لديهم ميل، ولا يشعرون بالحاجة إلى تطوير هذه الكفاءات، يكون من المنطقي أن يميلوا إلى التسلبط والقمع الوظيفي ثم يتحولون إلى القمع الاجتماعي.

وهنا تبرز مجتمعات القمع، القامعة والمقموعة، تولد في نفس كل فرد من أفرادها ديكتاتوراً، ومن ثم فإن كل فرد فيها، ومهما شكا من الاضطهاد، يكون مهيأً سلفاً لأن يمارس هذا القمع ذاته الذي يشكو منه، وربما ما هو أقسى وأكثر عنفاً، على كل من يقع تحت سطوته، فالمثل المحتذى متوفر أمامه كل يوم في من يضطهدونه، وهو شاء أم أبى يرى فيهم ما يمكنه أن يقلده، ولهذا يتبين أن الموظف الضعيف الهزء والمسخرة له أنياب لا تقل حدة عن أنياب من يهزؤون منه ويسخرونه أو يسخرون منه، ولا تظهر هذه الأنياب، أنيابه، إلا حين تتاح له الفرصة للترقي الوظيفي، وحين يصبح آمراً على آخرين يستطيع أن يضرهم وينفعهم.

فالمسؤول المقموع من قبل من هم أعلى منه سلطة يتحول إلى آمر قامع في دائرة نفوذه، والمواطن المقموع يتحول إلى زوج قامع لزوجته وأولاده، والمرآة المقموعة تتحول إلى أم قامعة أو جارة متلسبطة.. وهكذا نحن.. مجتمع "السلبطة".

تتقبل الأم ما سوف تمارسه هي على الأولاد، ويتقبل الأولاد ما يمارسه الكبير منهم على الصغير، أو ما قد تعلمه جيداً وخزنه في ذاكرته ليمارسه على أولاده في المستقبل، كما يتقبل هؤلاء الأولاد ما يمارس عليهم في المدرسة لأنه هو ذاته ما سوف يمارسونه ويطبقونه في الحياة العملية التي سيخرجون إليها سواء في سلك التعليم أو في أي سلك وظيفي، وتخفي الأسرة في طياتها تلك الرغبة الاضطهادية الانتقامية التي سوف تمارسها على الجيران الضعفاء.

إذا أردنا التخلص من هذه "السلبطة" ومفرزاتها ونتائجها التي نجدها ظاهرة في كل تفصيل من تفاصيل حياتنا اليومية، نجد أمامنا الطريق واضحاً بإشباع الإنسان وتعليمه، فإذا شبعت بطن الإنسان وعرف حقه طالب به ودافع عنه

خلاصة وحل

أسباب "السلبطة" والتنمر كثيرة ومتشعبة يبدو أبرزها في انتشار الجهل والجوع، فالجاهل أعمى سهل الانقياد، والجائع مضطر للانقياد، يقول جوزيه دوكاسترو في كتابه جغرافية الجوع: "إذا تسلط الجوع التام على الإنسان صار سلوكه من العنف مثل سلوك الحيوان تماماً.. والجوع يهدم الشخصية..".

وعليه فإذا أردنا التخلص من هذه "السلبطة" ومفرزاتها ونتائجها التي نجدها ظاهرة في كل تفصيل من تفاصيل حياتنا اليومية، نجد أمامنا الطريق واضحاً بإشباع الإنسان وتعليمه، فإذا شبعت بطن الإنسان وعرف حقه طالب به ودافع عنه، صعب انقياده وتطويعه.. بالعلم والتعلم وتطبيق القانون فقط، يسود العدل وتسمو الأمم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.