شعار قسم مدونات

ملف اللاجئين على الطاولة التركية.. الملامح والتداعيات (2)

أحد مخيمات اللاجئين السوريين في تركيا (الجزيرة)

تناولنا في المقال السابق 4 محاور رئيسية في محاولة لفهم تعامل الدولة التركية مع ملف اللاجئين، في ظل التعقيدات السياسية والتأثيرات الخارجية والمعطيات المتعلقة بهذا الملف الشائك على طاولة المفاوضات. وفي هذا المقال سنستكمل الحديث بالتفصيل عن 4 محاور أخرى لا تقل أهمية عن سابقتها؛ في محاولة لفك الرموز المعقدة والمتلازمات المتشابكة حول هذا الملف، الذي يطرح نفسه وبشدة على الطاولة التركية من حين لآخر.

حسب المخطط الإنشائي للمشروع، فإن الوحدات السكنية تتوزع على 9 مناطق مختلفة، وتتألف من نحو 240 ألف وحدة سكنية، يستفيد منها نحو مليون لاجئ سوري

هل حلول إعمار الشمال السوري مجدية بالفعل لحل الأزمة؟

بداية، لا بد أن تكون لنا وقفة للتذكير بالمشروع الذي أطلقته الحكومة التركية السابقة ضمن خطط إعادة الإعمار في الشمال السوري، حيث وضع وزير الداخلية التركي السابق سليمان صويلو -في نهاية مايو/أيار الماضي- حجر الأساس لمشروع وحدات سكنية لصالح اللاجئين السوريين في مدينة جرابلس (شمالي سوريا) بتعاون "تركي-قطري".

وحسب المخطط الإنشائي للمشروع، فإن الوحدات السكنية تتوزع على 9 مناطق مختلفة، وتتألف من نحو 240 ألف وحدة سكنية، يستفيد منها نحو مليون لاجئ سوري من المقيمين في تركيا لكي يعودوا إلى سوريا ويستقروا فيها.

وقال صويلو حينها إنه بدأ العمل على إنشاء 5 آلاف مسكن ضمن المرحلة الأولى من المشروع، وستُسلم قبل انتهاء العام الحالي 2023، حيث تنقسم الوحدات السكنية إلى 3 مساحات: شقق بمساحة 60 مترًا مربعًا، وشقق بمساحة 80 مترًا مربعًا، وأخرى بمساحة 100 متر مربع.

وأشار صويلو أيضًا إلى أن المشاريع لن تقتصر على وحدات سكنية، بل "هو مشروع متكامل يضم مناطق زراعية ومنشآت صناعية وتجارية، إضافة إلى إنشاء بنى تحتية".

ويرى عدد من المحللين الاقتصاديين أن تطبيق مبدأ "العودة الطوعية" للاجئين السوريين لن يتم إلا من خلال عملية إعمار شاملة للبنى التحتية وتقديم الخدمات الأساسية من ماء وكهرباء وتعليم وصحة، وهو أمر لا يمكن أن يحدث من دون مصالحة سياسية؛ كون العقوبات الغربية على النظام الحالي تمنع أي تعاون اقتصادي معه، بالإضافة إلى أن الجانب السوري متعنت لدرجة كبيرة في تفاوضه مع الجانب التركي، ويضع له شروطًا يجب تنفيذها أولًا من أجل التعاون في عدة ملفات والتفاهم على مستوى عدة أصعدة، ولكن أنقرة ما زالت ترى هذه الشروط تعجيزية وغير قابلة للتنفيذ لأنها تمس أمنها القومي وتعرضه للخطر.

وعندما وجدت تركيا أن طريق التفاوض مع النظام السوري يعتريه الكثير من العقبات في الوقت الحالي، حاولت إيجاد حلول بديلة لضمان نجاح مشروع إعادة توطين السوريين في الشمال السوري.

فأثارت تقارير للصحافة التركية حول خطة للتشجيع على عودة اللاجئين السوريين متضمنة إشارة إلى احتمال التفاوض على مصير مدينة حلب (ثاني أكبر المدن السورية وعاصمتها الاقتصادية) تساؤلات حول طبيعة المساعي التي تبذلها أنقرة بهذا الخصوص، وعلاقتها بمسار التقارب المتعثر مع النظام السوري، والعلاقات المتوترة نسبيًا مع موسكو.

وتحدثت صحيفة صباح التركية عن إصدار الرئيس التركي أردوغان تعليمات تقضي بتشكيل آلية ثلاثية من كل من وزارة الداخلية وحزب العدالة والتنمية وكتلته النيابية بالبرلمان؛ لوضع خطة تفضي إلى تسهيل عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، من خلال إحياء الحياة الاقتصادية في المناطق الخاضعة لسيطرة تركيا.

وقالت الصحيفة إن تركيا تجري مباحثات مع الجانبين الروسي والسوري لضم مدينة حلب -الخاضعة لسيطرة النظام السوري- إلى جهود الإحياء الاقتصادي والاجتماعي والعمراني، في خطوة تهدف إلى جذب مئات الآلاف من اللاجئين السوريين.

وأثارت هذه التقارير علامات استفهام كثيرة حول جدية هذا الحل وجدوى تنفيذه على أرض الواقع، خاصة أن الكشف عنها تزامن مع عدم ظهور أي مؤشر على تجاوز الخلافات التي تعيق التقدم في مسار التطبيع بين تركيا والنظام السوري، وأبرزها الوجود العسكري التركي في الشمال السوري.

ويرى محللون أنه وإن كانت هذه المحاولات غير قابلة للتنفيذ في الوقت الحالي، فإن لها أهدافًا أخرى تتمثل في إبراز دور تركيا الفعال في سوريا، والتذكير بأن لديها ما تقوله هناك، ويرى البعض أن التسريبات المتعلقة بمدينة حلب موجهة للرأي العام الداخلي بالدرجة الأولى أكثر منها للقوى الخارجية، في محاولة لطمأنة الشعب التركي، وإرسال رسائل تهدئة إليه، خاصة بعد تعالي الأصوات المنادية بترحيل اللاجئين.

مع ارتفاع وتيرة التحريض ضد العرب، تكررت حوادث الاعتداء على سائحين أو مقيمين عرب في تركيا، وكان منها اعتداء عشرات العنصريين بشكل سيئ على فتى يمني (15 عامًا) في أحد المجمعات السكنية بمنطقة إسنيورت بإسطنبول

تزايد حملات العنصرية وليد اللحظة أم تراكمات قديمة؟

لطالما تمتعت تركيا على مدى قرون بتنوع ثقافي كبير، حيث تعايش فيها العديد من الأعراق والأديان، لكن هذا التنوع بات مهددًا للأسف في السنوات الأخيرة مع تصاعد تيار العنصرية التركية ضد اللاجئين.

فخلال السنوات الثلاث الماضية، وبالتزامن مع تزايد الضغوط الاقتصادية؛ أطلقت أحزاب المعارضة التركية حملات تحريض إعلامية ضد اللاجئين العرب عامة والسوريين خاصة.

ومع ارتفاع وتيرة التحريض ضد العرب، تكررت حوادث الاعتداء على سائحين أو مقيمين عرب في تركيا، وكان منها اعتداء عشرات العنصريين بشكل سيئ على فتى يمني (15 عامًا) في أحد المجمعات السكنية بمنطقة إسنيورت بإسطنبول، بجانب حادثة الاعتداء الأخيرة على السائح الكويتي بولاية طرابزون التركية، التي أثارت الرأي العام في تركيا بعد تدخل السفارة الكويتية لحماية مواطنها والمطالبة بمعاقبة الشخص التركي المعتدي.

وللوقوف على أبعاد تصاعد هذا الخطاب العنصري في الآونة الأخيرة، وتأثر بعض فئات الشعب التركي به، يجب التذكير بحقيقة مهمة؛ وهي أن تاريخ العلاقة بين العرب والأتراك اتسم بشيء من التعقيد والتنوع؛ إذ إن العلاقات بين الشعبين مرت بمراحل متباينة، وخضعت لعوامل سياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية.

فالدول العربية عاشت تحت الحكم العثماني فترة طويلة في علاقة أخويّة وثقافية وتاريخية وإيمانية وحياة مشتركة، ومن هنا يظهر جليًا أن العنصرية بذرة استعمارية غرسها الاستعمار لتفكيك الدولة العثمانية، لا سيما أن العرب كانوا يرمزون للإسلام، فعمل المستعمر على الإساءة إلى سمعة الآخر بواسطة عملائه في الطرفين؛ مما أدى إلى التباين الثقافي والنفسي بينهما مع مرور الوقت.

كما أن قيام بعض الدول العربية بدعم حزب العمال الكردستاني الذي تصنفه تركيا كيانا إرهابيا أذكى الشعور السلبي لدى المواطن التركي تجاه العرب، حتى جاء حزب العدالة والتنمية وحاول تغيير هذه السمعة والانفتاح على العالم الإسلامي؛ الأمر الذي أسهم في زيادة التواصل والتعاون والتشارك على مستوى الشعوب في مجالات التجارة والصناعة وغير ذلك.

ولا بد من التأكيد على أن الشعب التركي ينقسم إلى محافظ وعلماني، حيث يتعامل القسم الأول منه مع قضية اللاجئين بمزيد من التعاطف والترحيب والانفتاح، لكن العلمانيين يبغضون المسلمين والعرب والثقافة الإسلامية؛ لذلك كان وما زال موقفهم سلبيًا للأسف، وهذا إشكال مستمر.

كما أن التحدي الاقتصادي أحد العوامل التي أثرت في السياقين الاجتماعي والسياسي اللذين يمكن أن يؤديا في بعض الأحيان إلى تصاعد العنصرية والتمييز ضد اللاجئين، فمثلًا وجود هذا العدد الكبير من اللاجئين بالمجتمع التركي وانتشارهم في المدن وقبولهم العمل غير الرسمي بالأجور المخفضة جعلهم ينافسون العمالة المحلية، حيث إن إطلاق إمكانية العمل للأجنبي قد تسبب في تدني الأجور، وهذا ما لم تقبله النقابات والمواطنون على حد سواء.

كما أنه ارتفعت أسعار الإيجارات نتيجة زيادة الطلب، ومما فاقم المشكلة أن الأجنبي المقيم أو اللاجئ تطول إقامته في تركيا، لكنّ كل هذا له جوانب إيجابية أيضًا؛ مثل زيادة حركة التجارة، لكن المواطن يرى الجوانب السلبية بشكل أكبر ويسلط الضوء عليها بتأثير من الإعلام المعارض الذي يستغل هذا الأمر؛ لمحاولة صنع غضب شعبي تجاه السلطة الحاكمة.

لا يخفى الأثر السلبي لهذه القضية من خلال استخدام متطرفين عنصريين لوسائل التواصل الاجتماعي ونشر الأخبار الكاذبة والمضللة للتحريض على الكراهية والعنصرية تجاه اللاجئين.

دور الشخصيات السياسية في أزمة اللاجئين

لعبت وسائل الإعلام دورًا حاسمًا في تشكيل الرأي العام وتوجيه انطباعات الجمهور حول مختلف القضايا عبر استضافة الشخصيات السياسية التي تتبنى الخطاب العنصري، وعلى رأسهم أوميت أوزداغ رئيس حزب الظفر المعادي للاجئين، وهو الأمر الذي كان له تأثير كبير في تعميق العنصرية ضد اللاجئين عبر تضخيم الحوادث السلبية وتكريس مشاعر الخوف والقلق بين أفراد الشعب التركي.

ولا يخفى الأثر السلبي لهذه القضية من خلال استخدام متطرفين عنصريين لوسائل التواصل الاجتماعي ونشر الأخبار الكاذبة والمضللة للتحريض على الكراهية والعنصرية تجاه اللاجئين.

ويبدو بوضوح أن التحريض الإعلامي للعنصرية مدعوم من جهات دولية لا تريد استقرار تركيا، وفي مقدمتها أميركا التي تدعم الأحزاب اليمينية في تركيا، وتتجلى خطورة هذه القضية إذا أخذنا بعين الاعتبار انتشار استخدام وسائل التواصل الاجتماعي كوسيلة للتحريض المستمر.

فحسب الإحصاءات واستطلاعات الرأي، فهناك نحو ما بين 40 و50% من المواطنين الأتراك لديهم ميول وطنية غير متحيزة، لكن تحوّل هذه الفئة للعنصرية أمر وارد إذا أخذنا في الاعتبار التوجيه الإعلامي للعنصريين والمتطرفين.

ومع تصاعد هذا الخطاب العنصري بدعم إعلامي وانتشار سريع عبر وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة؛ تدخلت السلطات التركية لتضع حدًا لهذه التجاوزات التي بلغت ذروتها، فقامت السلطات الأمنية في سبتمبر/أيلول الماضي بحملة اعتقالات واسعة في 14 ولاية تركية استهدفت شخصيات عنصرية أدارت منصات شهيرة على مواقع التواصل الاجتماعي للتحريض على الأجانب واللاجئين.

وأعلن وزير الداخلية التركي علي يرلي قايا أن هذه الحملة كانت بتنسيق من إدارة مكافحة الجرائم الإلكترونية بالمديرية العامة للأمن وإدارة المخابرات التركية، حيث تم إثرها عبر عمليات متزامنة اعتقال 27 شخصًا مشبوهًا بتهمة التحريض على الكراهية ضد الأجانب.

أبحاث الرأي العام تشير إلى أنه رغم أن المواطنين الأتراك الذين يدعمون المعارضة التركية -خاصة أولئك الذين لديهم ميول قومية أكثر- يبدون قلقين للغاية، فإن المواطنين من جميع الألوان السياسية قلقون بشأن عدد اللاجئين في تركيا

رأي الشعب التركي في أزمة اللاجئين والهجرة غير النظامية في تركيا

في السنوات الأولى من الحرب السورية التي بدأت عام 2011، بدا أن الشعب التركي يُظهر درجة عالية من القبول الاجتماعي تجاه اللاجئين، لكن تلك الصورة تغيرت بشكل كبير بعد ذلك لأسباب عديدة؛ منها التدهور الاقتصادي وارتفاع معدلات البطالة وطول فترة بقاء اللاجئين وتوسع انتشارهم في المدن التركية، وتأثيرهم على التحول الديموغرافي للدولة بالنظر إلى ارتفاع نسبة المواليد لديهم مقارنة بنسبة مواليد الشعب التركي.

وحسب استطلاع أجرته شركة "ميتروبول" في أغسطس/آب 2021، كانت نتيجته أن 67% من المستجيبين لقبول اللاجئين من قبل يرون أنه يجب على تركيا أن تغلق حدودها أمام اللاجئين بالكامل. في حين وجد استطلاع أجرته المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في مارس/آذار 2022 أن 48% من المواطنين الأتراك يريدون من الحكومة إعادة اللاجئين السوريين إلى سوريا، بزيادة قدرها 4 أضعاف ما كانت عليه قبل 3 سنوات.

وتشير أبحاث الرأي العام الأخرى إلى أنه رغم أن المواطنين الأتراك الذين يدعمون المعارضة التركية -خاصة أولئك الذين لديهم ميول قومية أكثر- يبدون قلقين للغاية، فإن المواطنين من جميع الألوان السياسية قلقون بشأن عدد اللاجئين في تركيا ويؤيدون إعادتهم إلى أوطانهم أو تقييد وجودهم عبر إعادتهم إلى مخيمات اللاجئين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.