شعار قسم مدونات

الفقد الكبير.. فوق الأنفاق الرطبة

استدراج المدنيين إلى مناطق يوهمونهم أنها آمنة ليتم إبادتهم عبر قنابل الفسفور المحرمة دوليا (الفرنسية)

جاءت تصريحات الأسيرة الإسرائيلية المفرج عنها من طرف المقاومة الفلسطينية عبر وسائل الإعلام الاحتلال، كارثة بكل المقاييس على القيادة السياسة والعسكرية التي تخوض الحرب ضد غزة، وقد وصفت من أنّها بروباغندا للمقاومة باتت تروّج الآن من داخل الكيان الصهيوني، إذ قالت الأسيرة من أنّها عوملت بكل إنسانية داخل الأنفاق الرطبة التي كانت المقاومة تنظفها لنا، تلك التصريحات وإن لخصت القيم الإنسانية والأخلاقية لأولئك الذين يسعون لتحرير أرضهم من المحتل، لكنها فضحت المزاعم الحثيثة لوسم المقاومة بالحركة الإرهابية.

تصريحات المندوب الإماراتي في مجلس الأمن قاربت بشكل مقزز مقررات قمة السلام بمصر بقيادة السيسي، في الوقت ذاته ظلت آلة القتل البربرية الإسرائيلية تستهدف الأجزاء الحيوية للبنية التحتية الفلسطينية، فتعذيب الأسرى لدى الاحتلال في الضفة الغربية رافق بصورة مرعبة قصف المدنيين الممنهج في غزة، وما تم من استهداف عائلة مراسل الجزيرة وائل الدحدوح، يؤكد لكل حر في العالم، حجم النازية الإسرائيلية التي يمارسها نظام الفصل الصهيوني ضد العزّل، والصحفيين، وطواقم الإغاثة.

عدم تفهم سردية المقاومة لم يتوقف عند استهداف قياداتها وداعميها، بل تعدى إلى استهداف أولئك الذين يقفون على عتبات الإنسانية يحاولون لملمة جراحها بالتنديد والشجب، أو حتى نقل الصورة الواقعية لحجم الخراب والدمار

الفقد على قدر النضال

حينما يتم التأكيد على أنّ عملية طوفان الأقصى لم تغيّر حسابات اللعبة الدولية في المنطقة فحسب، بل ساهمت بشكل كبير في بعث الوعي الجماهيري العالمي الحر لنصرة المسألة الفلسطينية، وحيثما يكون النضال ينبري الفقد درجات، وأينما يتجلى الصراع الإنساني تحضر التضحية  في كل تجلياتها، فأن تكون مقاوما يحاصره العالم المدعي الحرية والديمقراطية بشتى أنواع الشتات الملقى من خيبات التاريخ والحضارة، لهو أمر لا تحركه اللعبة السياسية في تهجير المدنيين وإغراق انفاق المقاومة، بل بقدرة البشر على الإمعان في تبرير القتل لدرجة استحالتهم التنديد ولو بكلمة ضد الإبادة الجماعية، وتطويعهم القيم الإنسانية لصالح عصبة نيوليبارالية لا تعزز الأمن العالمي بقدر ما تمنح النخبة حق التوفق والتمييز.

أن تناضل نصرة لقضية عادلة وإنسانية ليس من السهل تقبله، في وقت تسارع المؤسساتية الغربية إلى فرض قيمها النيوليبرالية عبر تقبل المثلية ورفض الآخر، فعدم تفهم سردية المقاومة لم يتوقف عند استهداف قياداتها وداعميها، بل تعدى إلى استهداف أولئك الذين يقفون على عتبات الإنسانية يحاولون لملمة جراحها بالتنديد والشجب، أو حتى نقل الصورة الواقعية لحجم الخراب والدمار، ونضالهم ذاك كان لزاما أن يحمل فقدا كبيرا لعظم القضايا التي يدعمونها، فأن تكون مع الإنسان في وقت تتداعى الحضارة لاستعباده وتفكيك بنيته، يفرض التنازل أو التخلي عن ما تريد النفس البشرية من الاستمتاع والتلذذ بالحياة، فرائحة الموت توشك أن تنال من روعة العالم وهو يحمل أكفانه البالية إلى خنادقها المتراصة.

ليس سهلا تقبل معنى التضحية في سبيل القضايا العادلة، ويمكن للبعض أن ينال من الحياة كما لو لم تكن لغيره من طيب العيش، واختلاف درجات الفقد مرهون بمدى جديتنا بحجم التضحيات التي يمكن أن نقدمها، فأن تكون النفس والمال في سلم تراتب الارتقاء الإنساني نصرة للشعوب المستضعفة، مسألة في غاية الإحراج لدى الكثيرين من النخب التي شارفت حواف العدم بالخيبة والخذلان وصمتها المخزي، إذ النضال لا يكون إلا بما يحسنه كل فرد منا، وعلى قدر عزم البشر في تحرير ذواتهم ومجتمعاتهم من سطوة هيمنة تلفيقات الآخر، يكون الفقد عظيما.

 الصورة التي تنقلها شبكة الجزيرة للعالم كان ثمنها قتل العديد من صحافييها، في العراق وسوريا وفلسطين وأفغانستان، ولم يتوقف ذلك القتل عند استهداف صحافييها فحسب، بل تعدى إلى إبادة عوائلهم من طرف نظام الفصل الصهيوني

الخوف من الصورة

يتعزز التركيز الصهيوني ليس على الحرب الدائرة بالأراضي الفلسطينية المحتلة اليوم فحسب، بل بتلك الساحات المفتوحة على جبهات أكثر إيلاما له، وهو يبصر كيف باتت عقد التبعية للصهيونية تنفك عنها شعوب لطالما استعبدتها آلة القمع والخوف، أو أوهمتها المؤسساتية الليبرالية بأسطورة الديمقراطية الفريدة من نوعها في الشرق الأوسط، ولكي تستمر سردية الاحتلال المدعومة من ترسانة إعلامية غربية، تختبر الإرادة الشعبية عبر الفضاءات المهيمن عليها بالتضليل والتلفيق اللذين وسمت بهما الإمبراطورية المقاومة بالمنظمات الإرهابية، ووفقا لما تستدعيه الضرورة التاريخية لكل شعب أذيق ويلات التهجير والقتل المنظم، كان لزاما أن ينفض العالم الحر عن تكرار الخطيئة التاريخية ضد الإنسانية بإقرار الإبادة ضد الشعب الفلسطيني.

وأن تتخذ الأقلام المناوئة للبربرية الصهيونية موقفها الأخلاقي والإنساني التزاما بما يمكنها من التخلص من تداعيات حشرها في عناوين الخنوع والخيانة، ومع أنّ المسألة الفلسطينية باتت على خطوط وقف الاستيطان، والتنسيق الأمني وإدخال المساعدات الإنسانية وحل الدولتين على حدود 67، فإنّ محور الشر كما تزعمه القيادة الأمريكية ما عاد يأخذ أنفاسه وهو يلقنّ أطفال الحجارة الشهادة، وعملية طوفان الأقصى كانت الفيصل الحاسم والجولة ما قبل الأخيرة في إقرار التبعية للإمبراطورية باتفاقات التهدئة، أو فتح الجبهات لتحطيم هياكل الصهيونية المتزعمة للجغرافيا العربية.

إنّ سياسة العقاب الجماعي التي يشنها الاحتلال ضد الفلسطينيين منذ ما يفوق نصف قرن، لا تكاد تكتب في سجل الانتهاكات ضد الإنسانية حتى تتبعها أخرى تُذهب عنها حجم البربرية التي يمارسها نظام الفصل الصهيوني، في وقت تقف فيه الجامعة العربية عقبة أمام الإرادة الفلسطينية في تحقيق سلام دائم في المناطق المحتلة عبر تحرير كامل للأرض، ولعل اتفاقات التسوية التي دعمها اتفاق أبراهام مقابل الإحلال الكلي للفلسطينيين داخل دول الطوق، بات يرسم ملامحه الأخيرة للمسألة الفلسطينية بعيدا عن رؤية المقاومة لنهاية الصراع.

لطالما كان الاحتلال مؤمنا بسياسة التنكيل بالمدنيين عبر تهجيرهم وقصفهم، لكنه كان أكثر جرما في انتهاك الاتفاقات وخرقها تحت ذرائع واهية، لتحقيق مساره الاستيطاني في الأراضي الفلسطينية، وقد بلغت مستويات العنف للصهيونية مراكز التصنيف النازي مقارنة بما فعله هتلر إبان الحرب العالمية الثانية، فاستدراج المدنيين إلى مناطق يوهمونهم من أنها آمنة، ليتم إبادتهم عبر قنابل الفسفور المحرمة دوليا، لا يختلف عن معسكرات الاعتقال النازية التي تناقل العالم الحر صورها، فالخوف الذي يطال المدنيين جراء القصف المستمر لم يكن بإمكانه إيقاف نقل الصورة الحقيقية عبر شبكات إعلامية تقف إلى جانب الإنسانية في تعاطيها مع القضايا العادلة.

تلك الصورة التي تنقلها شبكة الجزيرة للعالم كان ثمنها قتل العديد من صحافييها، في العراق وسوريا وفلسطين وأفغانستان، ولم يتوقف ذلك القتل إلى استهداف صحافييها فحسب، بل تعدى إلى إبادة عوائلهم من طرف نظام الفصل الصهيوني، ولعل المفارقة التي ترسمها قناة الجزيرة وهي تنقل صورة أنفاق المقاومة ورشقات صواريخها، وهن الاتهامات المستفزة للقيادة الإسرائيلية والأنظمة المناوئة للكلمة الحرة والصورة الكاملة، فشبكة الجزيرة عبر مراسليها في جبهة نقل الوقائع من دون الإخلال بالتزامها الإنساني والأخلاقي بميثاق المهنية، وارتقاء مراسليها عبر استهدافهم بشتى وسائل الإسكات المخيفة، يزيد إيمانها بضرورة نقل الصورة الكاملة للعالم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.