شعار قسم مدونات

الدحدوح.. دروس للصحافة الغربية

وائل الدحدوح
ظهر الدحدوح قوياً متماسكاً ثابتاً على قيمه وأخلاقه ترى في عينيه حزناً على فقد أحباءه ولكن فوق الحزن إصرار وعزيمة على مواصلة الطريق (الجزيرة)

في كل يوم من أيام العدوان الآثم على شعب غزة الصامد لنا دروس وعبر، وفي كل موقف نراه يومياً تتغير قناعات وتتكشّف حقائق وتنزاح عن أعين الشباب العربي غمامة غطت عيونهم وعقولهم وأفكارهم سنين طويلة، حين كان مثلهم الأعلى بلاد الغرب، حيث الحرية والعدالة والصدق والنزاهة، حيث الإنسانية تتجلى في أجمل صورها، حيث الإعلام الصادق الذي لا يخاف سلطة ولا يخشى دولة.

عندما تعلّق الأمر بالكيان الصهيوني المحتل ومقاومة أصحاب الأرض والحق له، رأينا انقلاباً رأساً على عقب، وتحولاً دون اكتراث ولا اعتبار، فترى الحجب والإيقاف والحظر لأي صفحة تندد بجرائم العدو الغاشمة

عندما كانت التقارير تُنشر والوثائق تُكشف والانتقادات للحكومات والرؤساء دون هوادة، والشباب العربي يتابع ويتغنى بتلك الحرية في الإعلام والصحافة الغربية، ونعاير أنفسنا بأننا لا نملك صحافة وإعلام حر ذو مصداقية ونزاهة، حتى جاءت أحداث غزة الأخيرة لتُعري الغرب وتكشف زيفهم وتضليلهم، وانحيازهم وتطرفهم غير المحدود في صف الإجرام والمجرمين، جاءت غزة لتكشف الأقنعة عن كبريات المؤسسات الإعلامية حول العالم، تلك الأقنعة التي خدعتنا لسنين طويلة كانت تخفي وراءها منظومات مُختلّة المعايير، مزدوجة الأحكام رمت بأخلاقيات مهنة الصحافة عرض الحائط في سبيل مصالحها ومصالح من يغدقون عليها العطايا، مؤسسات ذات ميزانيات مالية ضخمة تفوق ميزانيات كثير من دول العالم، ومنصات كانت مضرباً للأمثال في حرية التعبير يشترك بها أكثر من نصف سكان الكوكب، فتحت ذراعيها بنهم واحتضنت العرب يكتبون وينشرون ويعبرون عن آرائهم دون أدنى درجات التضييق إذا كان الأمر يخدم مصالحهم وأجندات أسيادهم.

هذا يحرق مصحفاً ترى صفحته منتشرة كالنار في الهشيم، وذاك يشتم الديانات ترى مقاطع الفيديو له أمامك في كل جولة لك في تلك المنصات تحصد ملايين المشاهدات، كل ذلك بخوارزميات ملعونة يتحكمون بها كما يريدون، وتجلّى الخداع وازدواجية المعايير واختلالها في تعاطي ذلك الإعلام مع قضية أوكرانيا، الشعب المضطهد على حد تعبيرهم، والذي يتصدى للاحتلال الروسي الغاشم، ويصور لنا جنوده أبطالاً يقاومون الغازي ويبرمجون عقل المتلقي بأن هذا هو حقهم الشرعي، ونحن العرب منخدعون كأننا في تنويم مغناطيسي، لكن عندما تعلّق الأمر بالكيان الصهيوني المحتل ومقاومة أصحاب الأرض والحق له، رأينا انقلاباً رأساً على عقب، وتحولاً دون اكتراث ولا اعتبار، فترى الحجب والإيقاف والحظر لأي صفحة تندد بجرائم العدو الغاشمة، بل حتى الكلمة في المنشور أو التعليق قد تكلف الشخص حظره نهائياً من تلك المنصات "الحرة والعادلة والنزيهة".

أكاذيب وتدليس دون خجل وحياء، على أعلى المستويات التي وصلت لرؤساء دول وحكومات، منتشرة على أكبر وسائل الإعلام العالمية بصورة ممنهجة وواضحة، وتجرّد من أدنى معاني الإنسانية فضلاً عن التجرّد من أخلاقيات المهنة، جهود مبذولة على قدم وساق، وأموال تُضخّ بلا وعي من أجل تزييف الحقائق وشيطنة صاحب الحق في مقابل إظهار المحتل المغتصب بمظهر البريء الذي تعرض للعدوان والظلم، كل هذا من أجل أن يسوقوا شعوبهم وغيرها من الشعوب لما يريدون، يتحكمون بآراء الناس بصورة مقيتة من خلال تحكمهم بالقنوات والمنصات العالمية، يتغنون بالديموقراطية والحرية وهم أبعد ما يكونون عنها، حيث التضييق على كل رأي مخالف، وطمس كل حقيقة واضحة كوضوح الشمس، يحاصرون عقول الشباب حول العالم بخوارزميات شبكتهم العنكبوتية السامة من أجل تغيير جوهرهم وقيمهم وأخلاقهم، هم شركاء في العدوان، وأيديهم كما أقلامهم وصورهم ملطخة بدماء الأبرياء.

ومرّة أخرى يُعطيهم الدحدوح درساً جديداً في القوة والصبر حتى باتوا أمامه صغاراً

وفي خضم معمعة الأكاذيب التي تجوب العالم بجنون، وفي وسط جر الشعوب الى مستنقعات التدليس، كان هناك غزاوي بسيط، في سحنته المعاناة التي يعيشها أهله، وفي ملامح وجهه ملخص لما يجري، وفي كلماته صدق وحقيقة لا مجال للشك فيها، يخرج في قلب النيران برفقة زميله المصور ينقلون للعالم الحقيقة ويكشفون جرائم تُرتكب ضد الإنسانية في البقعة المعتمة الآن من هذا الكوكب، يخرج وهو يعلم جيدا بأنه قد لا يعود، يحمل روحه في كفه، وفي الكف الأخرى ميكرفون ينقل صراخ الثكالى ونحيب الأطفال، يعمل بمهنية عالية وشجاعة كبيرة، ولم يكن يعلم أن الثمن سيكون غالياً وفي أعز ما يمكن أن يخسره الإنسان.

تراه يتنقل بين الدمار هنا وهناك ليقول للعالم أنتم كاذبون، يلهث بين الدماء وجثث الشهداء ليقول للعالم أنتم مزيفون، يظهر على الشاشة ونيران الطائرات من خلفه تدك مدينته الحبيبة ليهدم البنيان الرملي الهش الذي بناه الغرب في عقول شبابنا، ويقول للشعوب هاكم الحقيقة بتجرد بلا كذب ولا تزييف، هاكم جرائم العدو الغاشمة بالصوت والصورة حتى لا تنخدعوا بإعلامهم الذي تغنيتم به سنوات طويلة، فلم يتحمل العدو صدق رسالته، ولم يستطع بكل وسائله ثنيه عن مبادئه، فكان الانتقام الخسيس، الذي أقل ما يقال عنه بأنه جريمة كبرى بحق الإنسانية وبحق الحرية وبحق كل صوت يصدح بالحق، كان الانتقام الذي يعكس أخلاق العدو وقيمه الرخيصة الحقيرة.

حين قرر الانتقام من الدحدوح بقتل عائلته، ظنّاً منهم أن هذا سيُسكته، لكن هيهات هيهات، فصوت الحق أعلى من صوت طائراتهم، وصورة الحقيقة أوضح من نيران مدافعهم، ومرّة أخرى يُعطيهم الدحدوح درساً جديداً في القوة والصبر حتى باتوا أمامه صغاراً، ظهر قوياً متماسكاً ثابتاً على قيمه وأخلاقه، ترى في عينيه حزناً على فقد أحباءه لكن فوق الحزن إصرار وعزيمة على مواصلة الطريق، ليواصل ومنذ اليوم التالي لمجزرة العدو الغاشمة في حق عائلته، يواصل نشر الحقيقة وفضح جرائم الاحتلال ولا يأبه بما يواجه، فكان درساً للعالم أجمع في العزيمة والصبر ودرساً آخر في أخلاق مهنة الصحافة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.