شعار قسم مدونات

بعد فظائع الاحتلال بغزة.. هل بدأت الغشاوة تزول عن الرأي العام الغربي؟!

وضع إنساني كارثي يصر الكيان الغاصب على تكريسه وتأزيمه يوما بعد يوم (الفرنسية)

لا يختلف اثنان حول قتامة الوضع في قطاع غزة، حرب هوجاء طاحنة يشنها الصهاينة على شعب يئن تحت وطأة الحصار منذ 17 سنة، عدوان مستمر ليل نهار أمام مرأى ومسمع من العالم، ولا أحد يحرك ساكنا.

تقتيل للأطفال والنساء وكبار السن، وإرهاب موثق بالصوت والصورة، في مشاهد مروعة تسائل ضميرنا الإنساني وتصيب الإنسانية في مقتل. وضع إنساني كارثي يصر الكيان الغاصب على تكريسه وتأزيمه يوما بعد يوم، بدعم غربي صريح وحماية غير مسبوقة، ضاربين بعرض الحائط كل المواثيق الدولية والقيم الإنسانية، التي طالما صمت آذاننا وهم يتغنون بها في خطاباتهم الرسمية.

طالما سيطر الإعلام الرسمي في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا على عقول المواطنين، من خلال اعتمادهم الرواية الصهيونية للصراع مع الفلسطينيين، وتكريسها حقيقة مطلقة لا تقبل التشكيك

إذا ما أخذنا مسافة من الأحداث الجارية الآن في ساحة العدوان، وألقينا نظرة حول تداعياتها حول العالم، سنلحظ تفاعلا مختلفا مع الوضع القائم لفئات عريضة من المجتمع في الكثير من الدول الغربية، تفاعل لم نعهده سابقا، قد يشكل مقدمة لتحولات عميقة على مستوى الوعي الجمعي للغرب تجاه القضية الفلسطينية، وتجاه قضايا العالم الإسلامي عموما.

طالما سيطر الإعلام الرسمي في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا على عقول المواطنين، من خلال اعتمادهم الرواية الصهيونية للصراع مع الفلسطينيين، وتكريسها حقيقة مطلقة لا تقبل التشكيك، سنوات عديدة اعتقد فيها الكثيرون أن الحق مع الغاصب وأن صاحب الأرض المعتدى عليه هو المعتدي، بفعل سياسة إعلامية مضللة، تتعمد حجب الحقيقة، وتتمادى في تزوير الوقائع على الميدان خدمة لأجندة استعمارية خبيثة، بعيدا عن المهنية وقيم الصدق والحقيقة، التي يتبجحون بها بمناسبة أو بدونها.

المتابع اليوم لتفاعل العالم مع هذا العدوان الغاشم على أهل غزة، سيكتشف ظهور خطابات جديدة، قد تشكل قطيعة مع ما تعودنا عليه داخل المجتمعات الغربية فيما يخص التعاطي مع القضية الفلسطينية، فالمواقف سابقا كانت تتأرجح بين من لا يكترث بما يجري ومن يدعم إسرائيل دعما واضحا غير مشروط. أما اليوم فقد بدأنا نسجل ظهور أصوات داخل الرأي العام الغربي، تندد بوحشية الصهاينة، وتستنكر تواطؤ أنظمتهم وحكوماتهم مع الكيان الغاصب.

هذا التغير الواضح نسبيا في نظرة طيف واسع من المجتمع الغربي إلى القضية الفلسطينية، يمكننا ملامسته من خلال حجم المظاهرات المنددة بالعدوان الصهيوني في عدد من العواصم الغربية، حيث تستمر الوقفات الاحتجاجية بأعداد تتضاعف يوما بعد يوم، لتندد وتستنكر استمرار القصف والتقتيل. كما يتمظهر هذا التغير كذلك في طبيعة الشعارات المرفوعة أثناء هذه الاحتجاجات، فكلها خطابات قوية غير مشفرة تصدح بها الحناجر، ورسائل واضحة مكتوبة على يافطات تفضح من تلطخت أياديهم بدماء الأبرياء.

رغم التضييق الذي يتعرض له المحتوى الداعم للفلسطينيين والصادح بعدالة القضية الفلسطينية، إلا أن الحقيقة وصلت إلى بقاع العالم كافة

وجه آخر لهذا التحول رسمته جماهير بعض الأندية الأوربية داخل المدرجات، فبالرغم من التهديد بالإيقاف، تابعنا جماهير أوساسونا وسيلتيك وباريس سان جيرمان في مباريات رسمية، وهم يرفعون أعلام فلسطين ويهتفون باسمها في أهازيجهم وتشجيعاتهم، ليحولوا المدرجات إلى لوحات تضامنية بديعة.

يعود الفضل الكبير في هذا التمايز الحاصل اليوم إلى مواقع التواصل الاجتماعي، باعتبارها إعلاما بديلا يسمح بتداول خطاب آخر غير الذي تلوكه قنوات الإعلام الرسمي، فرغم التضييق الذي يتعرض له المحتوى الداعم للفلسطينيين والصادح بعدالة القضية الفلسطينية، إلا أن الحقيقة وصلت إلى بقاع العالم كافة، بما فيها تلك المناطق التي حجبت عنها البروباغندا الإعلامية الصهيونية شمس الحق والحقيقة طيلة عقود من الزمن.

يمكن اعتبار ما نتابعه على مواقع التواصل الاجتماعي إحدى تجليات هذا التغير في المواقف، حيث نشر العديد من النشطاء و"المؤثرين" من مختلف المشارب والخلفيات تغريدات تضامنية مع أهل غزة وتدوينات مناصرة للقضية الفلسطينية، بالإضافة إلى فيديوهات ينددون فيها باعتداءات الكيان الصهيوني وجرائمه البشعة في حق الأطفال، ويعبرون فيها بوضوح على تغيير موقفهم من القضية الفلسطينية، وتضامنهم المطلق مع أهل غزة. منشورات كثيرة تم تداولها على نطاق واسع على مختلف مواقع التواصل الاجتماعي، لاقت تفاعلا إيجابيا في مجملها من طرف أغلب المتابعين، فجاءت التعليقات المصاحبة لهذه المنشورات معبرة بشكل صارخ عن حجم التغير الحاصل في المواقف ووجهات النظر من قبل شرائح واسعة من المجتمع الغربي، الذي أزال عن عينيه غشاوة استمرت لعقود طويلة، فصار يبصر بجلاء ليتعرف على الضحية ويعرف من هو الجلاد.

قد يبدو هذا الأمر للبعض لا أهمية تذكر له، لكنه في الحقيقة يكتسي أهمية كبيرة، فالرأي العام داخل الأنظمة الديمقراطية يؤثر في صنع القرار السياسي بشكل أو بآخر.

صحيح أن هذه التحولات الحاصلة على مستوى الفهم والإدراك لدى الرأي العام الغربي لن تغير شيئا على أرض الميدان الآن، لكنها تشكل نقطة ضوء تلوح في الأفق، ستمثل لا محالة في قادم الأيام منعطفا هاما في تعاطي المجتمع الدولي مع القضية الفلسطينية، ونقطة تحول كبيرة ستعجل بأفول نجم الصهاينة وزوال أكذوبة "إسرائيل".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.