شعار قسم مدونات

المذاهبي أحمد الدمنهوري.. الشيخ العاشر للأزهر

الأزهر.. من مركز للشيعة إلى منارة للسنة - من مواد الوثائقية
الإمام الدمنهوري علامة من علماء الأزهر الشريف وإمام لجامعه وعلم بارز قاوم الركود السائد للحركة العلمية في مصر والعالم العربي (الجزيرة)

علامة من علماء الأزهر الشريف وإمام لجامعه، وعلم بارز قاوم الركود السائد للحركة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، وهو نادرة من نوادر الدنيا في عصره ومصره، ولم يأت أعظم منه اطلاعًا، ولا أكثر منه علمًا، وهذا نتاج حرصه الدائم على العلم واتصاله المستمر والمباشر بعلماء عصره، فقد قارب عددهم الأربعين عالمًا من مصر وبلاد المغرب.

ولد شهاب الدين أبو العباس أحمد بن عبد المنعم بن يوسف بن صيام الدمنهوري، في عام (1101هـ – 1690مـ) بمدينة دمنهور بالقطر المصري، وهي عاصمة محافظة البحيرة الآن، وهو نفس العام الذي توفي فيه العلامة الشيخ محمد الخراشي.

عاش العلامة الدمنهوري طفولته يتيمًا، فقد توفي والده وهو صغير السن، ولم يكفله أحد مما دعاه إلى الرحيل من موطن ولادته ومسقط رأسه دمنهور إلى القاهرة، فالتحق بالجامع الأزهر، فنشأ بين أروقة الأزهر العامرة بالعلم وأهله، واشتغل بالعلم، وجدَّ في تحصيله، واجتهد في تكميله، فنبغ في العلوم، وأجازه علماء المذاهب الأربعة، وكانت له حافظة قوية، كما كانت له معارف عظيمة في سائر العلوم والفنون العربية والدينية، بل برع في سائر العلوم العقلية والتجريبية، كالكيمياء، والطب، والفلك، والحساب، والطبيعة، والعلوم الرياضية، وعلم الأحياء.

ولعل مشيئة الله قضت أن ينشأ العلامة أحمد الدمنهوري يتيمًا، ثم يلتحق بالأزهر ليسير على خطى أسلافه من أعلام بلدته الأفذاذ كالعلامة محمد الدمنهوري، والعلامة الخراشي، والعلامة اللقاني، والعلامة الشبراخيتي.

كان العلامة أحمد الدمنهوري-رحمه الله- ذا مكانة علمية بارزة بين علماء عصره، فقد لقب بالمذاهبي، لأنه كان عالمًا بالمذاهب الأربعة فهمًا ودراية، ولا شك أن معرفته بجميع المذاهب منحته منزلة علمية رفيعة ومكانة عالية

تلقى الشيخ تعليمه على يد نخبة من العلماء والأعلام، فقد بدأت رحلته في طلب العلم كما ذكر في رسالته القيمة: (اللطائف النورية في المنح الدمنهورية) بدراسة المذاهب الأربعة، فيقول: "كانت أول قراءتي في المذاهب، على الشافعية ثم الحنفية ثم المالكية ثم الحنابلة"، فأخذ الفقه عن أفقه الشافعية في عصره عبد ربه الديوي البصير، وفي الفقه الحنفي حصل على الإجازة من علامة زمانه الشيخ محمد عبد العزيز الزيادي، أما المالكية فأجازه الشيخ محمد السلموني، أما الحنابلة فيقول العلامة الدمنهوري في اللطائف النورية : "فلم أجد منهم من هو متقن للمذهب في عصره سوى فقيه الحنابلة بالديار المصرية شيخ الحنابلة في وقته بالبقعة الأزهرية أستاذنا الشيخ أحمد المقدسي.

وإذا علمنا أنه قد أقام في بلدته عشر سنوات، وتقلد المشيخة عشر سنوات أُخر، ولقي ربه وهو في الحادية والتسعين من عمره، فإنه يكون قد قضى في طلب العلم إحدى وسبعين سنة تقريبًا، وهذا يفسر كثرة العلوم التي ذاكرها واستوعبها وحصلها، ووفرة المصنفات التي ألفها، وهذا القدر الكبير من الشيوخ الذين استمع إليهم أو تلقَّى عنهم. وهذا يلحظه المطلع على برنامج مشايخه الذي ضمنه في رسالته المخطوطة: (اللطائف النورية في المنح الدمنهورية) كل ذلك كان له انعكاس إيجابي على الشيخ وعلى إنتاجه العلمي، وعطائه الوافر، ومصنفاته الكثيرة والمتنوعة، فقد فاقت مؤلفاته الخمسين كتابًا في شتى العلوم والفنون.

كان العلامة أحمد الدمنهوري-رحمه الله- ذا مكانة علمية بارزة بين علماء عصره، فقد لقب بالمذاهبي، لأنه كان عالمًا بالمذاهب الأربعة فهمًا ودراية، ولا شك أن معرفته بجميع المذاهب منحته منزلة علمية رفيعة ومكانة عالية، لأن الغالب في العلماء الاقتصار على مذهب واحدٍ، والإلمام بشيء من المذاهب الأخرى.

فقد قال عنه شيخه محمد بن عبد العزيز الزيادي الحنفي: "الإمام الهمام نتيجة الزمان خلاصة المعتبرين الأعيان، المتبحر في المعقول والمنقول، المدقق لفني الفروع والأصول، البالغ في المذاهب الأربعة مبلغ الراسخين، شهدت تآليفه العديدة في المعقول والمنقول أنه الإمام على الإطلاق". وقال عنه الحافظ مرتضى الزبيدي في الألفية:

إمام أهل العصر في المعارف .. علامةُ الوقتِ مجيرُ الخائفِ

نيطتْ بهِ رغبــــــــــــةُ كـــلِّ راغبٍ .. في فهم فقهِ سائرِ المذاهب

وكم له مـــــــــن كُتُبٍ مــــــــؤلفه .. في كلِّ فنٍّ قد غَدَتْ مُشرَّفه

في عام 1177هـ خرج العلامة الدمنهوري مسافرًا إلى مكة المكرمة قاصدًا الحج، وذلك قبل توليه لمشيخة الأزهر بخمسة أعوام، فكان الاستقبال كريمًا يليق بمكانة ومنزلة الإمام الدمنهوري وشخصه، وحين عودته من الحج إلى مصر، استقبله الناس بنفس الحفاوة التي لقيها في مكة المكرمة، ومدحه الشيخ عبد الله الإدكاوي بقصيدة يُهنِّئه فيها بالعودة، فقال:

قد سُررنا وطاب الوقت وانشرحت .. صدورنا حيث صحَّ العَودُ للوطن

فالعودُ أَحمدُ قالوه وقــــــد حُمِدتْ .. بدءا وعـــــــودًا مساعيكم بلا غَبــن

فأنت أَمجـــــــــدُنا وأَنتَ أَرشــــــــــــدُنا .. وأنت أَحمدُنا في الســــرِّ والعلنِ

أما على مستوى الطبقة الحاكمة، فقد أجلَّه (علي بك الكبير)، وكان يجلس إلى دروسه، ويستشيره في كثير من أمور الدولة، وهذا يؤكد أن العلامة أحمد الدمنهوري قد حاز على رضى العامة والخاصة، وذلك عائد إلى ما كان عليه من منزلة ومكانة علمية، إلى جانب ما كان يتصف به من زهد وتقى وحلم وورع.

عاش الشيخ (91) عامًا في ظل الخلافة العثمانية فعايشها وعايش حوادثها وأحداثها، وعاصر ستًّة من سلاطينها، واتصل بأحد كبار سلاطينها السلطان "مصطفى الثالث" (ت1187 هـ) الملقب بالمبتكر، فكان يراسل الشيخ أحمد الدمنهوري ويهاديه ويبعث له بالكتب، وكان يفعل ذلك مع الجبرتي الكبير.

وقد ألف العلامة الدمنهوري كتابا معنونًا باسم السلطان مصطفى بن أحمد خان الثالث سماه: "بُلوغ الأَرَب في اسم سيد سلاطين العرب" في نحو عشرين كراسًا، وذلك وفقًا لما ذكره في رسالته: "اللطائف النورية في المنح الدمنهورية"، كما عاصر الشيخ المماليك المتحكمين الرئيسيين في حكم مصر، فهابته وعظمته كأمثال علي بك الكبير، ومحمد بك أبو الدهب، وإبراهيم بك، ومراد بك، وغيرهم.

ولما ذاع صيته قصده الملوك من جميع الأماكن، وقدَّموا إليه الهدايا القيمة، واحترمه ولاة مصر، وهابه الأمراء والكبراء، لالتزامه بالصراحة والصدق وقول الحق، فقد كان قوَّالًا للحق أمَّارًا بالمعروف. يقول الجبرتي: في كتابه "عجائب الآثار" متحدثًا عن العلامة الدمنهوري ومهابة الحكام له " وهابته الأمراء لكونه كان قوَّالًا للحق أَمارًا بالمعروف سمحًا بما عنده من الدنيا. وقصدته الملوك من الأطراف وهادته بهدايا فاخرة، وسائر ولاة مصر من طرف الدولة كانوا يحترمونه، وكان شهير الصيت عظيم الهيبة…"

وبلغ من مهابة الأمراء له وتعظيمهم لحرمته أنه لما نشبت الفتنة بين زعماء المماليك وأتباعهم من طائفتي (العلوية والمحمدية) فرَّ (حسن بك الجداوي) من زعماء العلوية أمام مطارديه، فلجأ لبيت الشيخ أحمد الدمنهوري، فلم يجسروا على أخذه قهرًا من بيت الشيخ حتى أجاره (إبراهيم بك).

كان معروفًا بين تلاميذه وزملائه من العلماء أنه لا يضع علمه في غير موضعه، ولذلك اتهمه البعض بالبخل في بذل العلم على الرغم من عطائه الوافر ومصنفاته الكثيرة والمتنوعة، فقد كان رحمه الله ينتقي من يتعلم على يديه

بعد وفاة الشيخ التاسع للجامع الأزهر (عبد الرؤوف السجيني 1182ه)، تبوأ العلامة أحمد الدمنهوري المكانة التي يستحقها من التقدير والإجلال، فقدمه علماء الأزهر لعلمه وفضله، وأنزلوه قدره، فتولى مشيخة الجامع الأزهر، وعماد الشافعية سنة (1182هـ -1768م) خلفًا للشيخ السجيني، ليصبح بذلك الشيخ العاشر لأكبر منارة للعلم في العالم الإسلامي.

اكتسب العلامة أحمد الدمنهوري شهرة عظيمة وواسعة بين أهل عصره، وذاع صيته، وقصده الطلاب من كل مكان، وكان قدوة لطلابه في السلوك والتدريس وحسن الأدب والأخلاق.

وكان معروفًا بين تلاميذه وزملائه من العلماء أنه لا يضع علمه في غير موضعه، ولذلك اتهمه البعض بالبخل في بذل العلم على الرغم من عطائه الوافر ومصنفاته الكثيرة والمتنوعة، فقد كان رحمه الله ينتقي من يتعلم على يديه، وكان ينشر علمه ويتحدث به مع من يستحق ذلك.

وظل الشيخ الدمنهوري عشرات السنين يعلم ويتعلم، ويفيد ويستفيد من العلم والعلماء، وظل يروي طيلة حياته، ويُروى عنه، وبات يضيف ويشرح ويعلق على كل ما يقع بين يديه وتقع عيناه، فأفاد بلسانه وقلمه جمهرة كبيرة من العلماء الذين كانوا يعتزون به وبالانتماء إليه، والنهل من علمه الغزير، ومعرفته الواسعة.

كان العلامة الدمنهوري غزير التأليف متنوع الإنتاج الفكري، فقد ترك لنا تراثًا ضخمًا في شتى جوانب العلوم والفنون، تثبت علو كعبه، وغزارة علمه، وسعة معارفه، وتنوع ثقافته، فلقد نهل في طريق طلبه للعلم من كافة العلوم العربية والشرعية، بل برع في سائر العلوم العقلية والتجريبية.

قال عنه تلميذه التاوُدِي: "قيل إن عدة تأليفه تقرب من تأليف السيوطي"، فقد بلغت مؤلفاته أكثر من خمسين كتابًا في مختلف العلوم والفنون، ولكن معظم هذا الإنتاج لا يزال مخطوطًا حبيسًا لم ير النور بعد، وقد ذكرها المؤلف في رسالة خاصة سماها "القول المنيف في بيان أسماء التأليف"، كما ذكرها أيضًا ضمن رسالته المسماة بـ"اللطائف النورية في المنح الدمنهورية"، فألف في علم التوحيد، والفقه، والتفسير، والتجويد، والقراءات وعلوم القرآن، والبلاغة، والوضع، والأخلاق، والسياسة، والمنطق، والتراجم، والتصوف، والطب، والفلك، والحساب والهندسة، والجيولوجيا، والكيمياء.

ومن أشهرها كتبه " إقامة الحجة الباهرة على هدم كنائس مصر والقاهرة، الفتح الرباني بمفردات ابن حنبل الشيباني – فيما انفرد ابن حنبل عن الشافعي، فيض المنان بالضروري من مذهب النعمان -في مذهب أبي حنيفة، طريق الاهتداء بأحكام الإمامة والاقتداء- على مذهب أبي حنيفة، النفع الغزير في صلاح السلطان والوزير، منهج السلوك إلى نصيحة الملوك، القول الصريح في علم التشريح.

وفي يوم غابت شمسه عن الأعين، لبى هذا العالم الموسوعي نداء ربه، في يوم الحادي عشر من شهر رجب (1192هـ) الموافق للرابع من أغسطس(1778م)، بعد أن أمضى جل حياته في طلب العلم ونشره، التي استمرت واحدًا وتسعين عامًا، انتقل إلى جوار ربه، وحمله الناس على أكتافهم من مسكنه في بولاق في مشهد مهيب متجهين به إلى الجامع الأزهر، ليودعه الوداع الأخير، وصُلِّيَ عليه بالأزهر بمشهد حافل جدٍّا، وقرئ نسبه إلى أبي محمد البطل الغازي، ودفن بالبستان، وقال الجبرتي في تاريخه: "وكان آخر من أدركنا من المتقدمين".

ما أحوج هذه الأمة في هذا العصر إلى علماء كالشيخ الدمنهوري، يجمعون بين العلوم الشرعية والعلوم الدنيوية، ويصنعون رابطا يجعل من علوم الدين دافعا للريادة في علوم الدنيا، رحم الله العلامة أحمد الدمنهوري الشيخ العاشر للجامع الأزهر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.