شعار قسم مدونات

في زمن تكميم الأفواه.. هل يمكننا وصف المستبد بالاستبداد؟

blogs- الظلم
الكاتب: نحن في زمن تكميم الأفواه حيث تغلق الحرية العذراء بابها خوفا من البشرية ومما وصلت إليه (مواقع التواصل الاجتماعي)

عادة ما يتجاهل الإنسان أو يتناسى كم هو شخص سيئ من الداخل بدافع الحفاظ على الذات، لأنه إن تجرأ وصافح نفسه واعترف بسوئه في جلسة خالية من الشهود في أعماقه، لهوى وتقهقر وسقط في هوة أفكاره بسبب هول ما فعل أو سيفعل، لذلك لا يعترف الشرير بشرّه، وإن صارحته بذلك صرخ عليك وهو يهرع من شدة خوفه، خوفه النابع من انكسار البناء المزيف والوهمي الذي خدع به نفسه.

وهذا يذكرني تماما بماكس هوركهايمر وتيودور أدورنو، وتحديدا بما فعلاه بعد أن فرّا من جيش هتلر ووصلا إلى أميركا بأمان ونشرا بحثا حول مفهوم التنوير، وأثبتا للقرّاء من خلاله بأن التنوير سيؤدي إلى الاستبداد غير مبالين بمجنون الحرب النازي المناهض للمشروع التنويري الذي يحرق في البشر ويرعد. والآن السؤال الرئيسي هنا؛ كيف نقول للكلب إنه كلب؟ وكيف نوصم الأحمق بالحماقة، والمستبد بالاستبداد والفاسد بالفساد؟

يحذرنا -يا أصدقائي- الجاحظ من فتنة القول كي لا نقع في شركه، وثقوا تماما أنه أفضل من كتب عن الزنادقة وتعامل معهم في زمانه، والمفارقة أنه إذا كان يرغب بتعرية أحدهم، قام بهجاء المراد تعريته عن طريق الطرفة، ولكننا يا أصدقاء لسنا في زمانه حيث استلال السيوف والشعر المفتوح والرجم بالحجارة، بل نحن في زمن تكميم الأفواه حيث تغلق الحرية العذراء بابها خوفا من البشرية ومما وصلت إليه.

إن الطريقة المثلى في الحياة -بعد تفكير طويل- هي المعاملة الثابتة والالتزام بالمبادئ والتمسك بكل ما هو خير حتى لو عنى ذلك فصل الرأس عن الجسد فالموت بفخر أفضل من العيش بدناءة وذلة

يميل معظم الناس إلى الإشادة بالقسوة وإلى سلك طريق الوعاظ المفروش بالورود والذي يخيل لسالكها بأنه في جنة حسن الصباح (مؤسس طائفة الحشاشين) حتى يستفيق ويرى في آخر لحظات حياته أنه كان قاتلا مأجورا، لا بحد السيف بل بحد الكلمات.

إن الطريقة المثلى في الحياة -بعد تفكير طويل- هي المعاملة الثابتة والالتزام بالمبادئ والتمسك بكل ما هو خير حتى لو عنى ذلك فصل الرأس عن الجسد فالموت بفخر أفضل من العيش بدناءة وذلة، وقد يظن بعضكم أنني أكتب أغنية رومانسية وبعيدة عن الواقع في كلامي هذا؛ إلا أن من يتمعن فيه جيدا ويعي ثمنه سيفهم كم هذه الأغنية صعبة التنفيذ في ظل الممارسات السياسية، وقد يتساءل البعض ويقول ما دخل السياسة فيما تقول؟

يا أصدقائي إن كل ما في هذا الزمان هو سياسة، حتى نومك سياسة والحديث في هذا الأمر يطول.

أينما وجدت الأفكار السامية اذهب نحوها؛ مع التنويه بأن هذه المبادئ قد تأتيك بسوء الحظ في الحياة الدنيا إن كنت شديد الاهتمام بها كما نفعل جميعا؛ لأننا أحياء

تطرح جوليان بيندا في مقدمة كتابها "خيانة المثقفين" رواية عن تولستوي عندما كان يخدم في الجيش وشاهد أحد زملائه الضباط يضرب متدربا خرج من الصف أثناء تأدية العرض العسكري، فقال له تولستوي ألا يصيبك الخجل وأنت تعامل زميلك بهذه الطريقة؟ ألم تقرأ ما جاء في الإنجيل؟

فرد عليه الضابط بنوع من الصرامة قائلا "وأنت ألم تقرأ الأوامر العسكرية؟".

ومن هنا ينطلق لنا محور آخر شديد الارتباط بفحوى هذا المقال، وهو أي التعاليم سنتبع؟

فهنالك عدة تعاليم كما تعلمون، تسبغ على بعضها الصفةُ المادية وهي الأكثر في زماننا، وعلى الجانب الآخر نجد التعاليم الروحية والمتفرعة بتعدد المذاهب والأديان.

والإجابة في هذه الحال بسيطة جدا؛ وهي أن تذهب يا عزيزي الإنسان إلى ما قلته أعلاه وبالتحديد إلى الأغنية الرومانسية عن المبادئ والحق، فأينما وجدت الأفكار السامية اذهب نحوها مع التنويه بأن هذه المبادئ قد تأتيك بسوء الحظ في الحياة الدنيا إن كنت شديد الاهتمام بها كما نفعل جميعا لأننا أحياء، ولكن كما يقول ماريو بيندتي "لا أحد يموت بسبب النزاهة"، وهو غالبا يقصد الروح لا الجسد، وأنا أتفق معه بذلك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.