شعار قسم مدونات

العلمانية الجزئية بوصفها طرحا إسلاميا جديدا (2)

مدونات - العلمانية
هل يجب علينا كي نقيم دولة قوية وقادرة أن نسلك المسار الأوروبي ونؤسس دولة حديثة علمانية؟ (رويترز)

لقد بدأت شرح مفهوم العلمانية الجزئية ضمن مشروعي الفكري في مقالتي السابقة تحت العنوان نفسه، ولكن في هذه المقالة سأتوسع قليلا بوضع إشكالية معينة وتعريف بعض المصطلحات التي تثير ارتياب البعض، من أجل الوصول إلى نتيجة منطقية قادرة على الدمج بين الدولة الحديثة بمفهومها الغربي والدولة من المنظور والمفهوم الإسلامي.

ولكن لماذا لم أقل "دولة إسلامية"؟ لأنه بكل بساطة ليس هناك مفهوم أو نص واضح يطرح فكرة الدولة الإسلامية، سواء في القرآن الكريم أو السنة النبوية، وهذا ما سنتطرق له بعد قليل وبشكل مفصل أكثر حتى لا تُفهم الأمور بشكل سلبي، فإن التحدي الحقيقي في دمج هذين الكيانين المنفصلين يتمثل في كثير من الأمور، مثل القومية المناهضة لمفهوم الأمة وفصل السلطات ومفهوم الديمقراطية والعلمانية مقابل الدولة الإسلامية بمفهومها الثيوقراطي في القضايا التشريعية والفقهية، وهذا ما تطرق له الدكتور وائل حلاق في كتابه "الدولة المستحيلة"، حيث عبّر عن استحالة تحوّل الدولة الإسلامية إلى دولة حديثة بالمفهوم الغربي لأن الأخيرة منزوعة الأخلاق والقيم، في حين أن الحضارة الإسلامية تقوم في بنيتها الأساسية على الأخلاق والقيم.

السؤال هو كيف نطرح العلمانية الجزئية بوصفها طرحا إسلاميا قابلا لأن يكون حلا وسطا في ميدان يتصارع فيه الإسلامي والعلماني في عدة معارك، مثل المصطلحات والمفاهيم والديمقراطية وشكل الدولة وغيرها من الأمور؟

كان الشرق قائما على مفهوم الدولة الإسلامية والخلافة رغم أن شكل الحكم قد أخذ عدة أشكال، إذ بدأت دولة أسستها الشورى، ثم تحولت إلى ملك عضوض أو ملكية مطلقة تحكم باسم الشريعة والدين

قبل البدء في شرح الطرح، لا بد لنا أن نسرد سريعا وبإيجاز العلاقة بين الدولة الحديثة والعلمانية، إن مفهوم الدولة الحديثة بدأ في القرن الثامن عشر وذلك بعد 3 قرون تقريبا من عصر النهضة والتنوير اللذين أسهما في طرح مفهوم الدولة الحديثة، فلقد تكلم نيتشه وماكس ويبر وجون لوك وغيرهم من الفلاسفة عن أسسها ومؤسساتها وإدارتها وبنيتها وفلسفتها.

أما مفهوم العلمانية، فلقد بدأ فعليا بشكل نظري بعد حركة مارتن لوثر الإصلاحية البروتستانتية التي نادت بفصل السلطة الدينية عن السلطة السياسية، أي الدولة، ثم جاءت الثورة الفرنسية كي تطبق المفهوم بشكل حاد، وأصبحت تعادي الأديان، وأصبحت تستخدم الدين في سياستها الاستعمارية، هكذا تم الدمج بين المصطلحين في كيان واحد وأصبحت الدولة الحديثة العلمانية، هذا المشهد تكوّن في الغرب.

في المقابل، كان الشرق قائما على مفهوم الدولة الإسلامية والخلافة رغم أن شكل الحكم قد أخذ عدة أشكال، إذ بدأت دولة أسستها الشورى، ثم تحولت إلى ملك عضوض أو ملكية مطلقة تحكم باسم الشريعة والدين، ثم سقطت الدولة الإسلامية ولم تقم لها قائمة حتى يومنا هذا، طبعا هذا الموضوع من أكثر الموضوعات إشكالية في عصرنا الحالي بين النخب الفكرية والسياسية، فريقٌ يطالب بإعادتها وآخر يريد تطبيق الدولة الحديثة العلمانية كالنموذج الأوروبي.

ولكن السؤال هل يجب أن نعيد دولة الخلافة بشكلها السابق؟ وهل يجب علينا كي نقيم دولة قوية وقادرة أن نسلك المسار الأوروبي ونؤسس دولة حديثة علمانية؟ وهل هي قابلة للتطبيق في الشرق؟ وكيف لنا أن نجمع النموذجين في نموذج واحد؟

عندما مات النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يذكر شكل الدولة، ولم يذكر طريقة انتقال السلطة وتداولها، فهل يُعقل أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي لم يترك شيئا إلا وقد تكلم عنه أن يغفل عن شكل الدولة ومبدأ تداول السلطة؟ لماذا لم يذكر القرآن الكريم شيئا عن الدولة؟

عندما مات النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يذكر شكل الدولة، ولم يذكر طريقة انتقال السلطة وتداولها، فهل يُعقل أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي لم يترك شيئا إلا وقد تكلم عنه أن يغفل عن شكل الدولة ومبدأ تداول السلطة؟ لماذا لم يذكر القرآن الكريم شيئا عن الدولة؟ هل هي صدفة؟ لو أن الله سبحانه ورسوله الكريم أخبرانا عن شكل الدولة، لكان لزاما علينا أن نطبق هذا الشكل حرفيا، مثل تطبيق الفروض من صلاة وصوم وزكاة، ولكنها نعمة من الله أن تلك الأمور لم تذكر إطلاقا، وهذا دليل واضح على أن الدولة ليست دولة إسلامية، بل دولة من منظور المسلمين، أي أنه تنظيم بشري بحت يتغير ويتكيف مع التغييرات الجيوسياسية والسياق الزماني والمكاني والتعددية الثقافية والدينية وغيرها من فوارق، ففي زمن الرسول، كان وظائف القائد السياسي والعسكري والنبي والقاضي والمشرع محصورة في شخص واحد، كل السلطات كانت محصورة في سلطة واحدة، ولكن عندما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفه سيدنا أبو بكر أوصى بالخلافة إلى سيدنا عمر، فهذا شكلٌ آخر لتداول السلطة، ثم قبل أن يموت عمر جمع 6 من الصحابة المبشرين بالجنة وألزمهم اختيار خليفة له من هؤلاء الستة.

من هذين المثلين نستطيع أن نفهم أن مبدأ تداول السلطة وحتى شكل الدولة يتسق مع التغيرات، وهذه هي العلمانية الجزئية التي مبدؤها الاجتهاد العقلي الذي لا يناهض مبدأ النقل، فالعقل لا يمكن أن يخالف النقل وهذا شيء متفق عليه بين العلماء أمثال الشاطبي والغزالي وابن تيمية وغيرهم.

العلمانية الجزئية محصورة في السياسة فقط ومؤسساتها ويجب أن تكون مقيدة بالقيم والأخلاقيات الكونية المتعارف عليها من كل الشرائع السماوية

فالدولة شكل من أشكال السياسة، والسياسة من الفروع وليست من الأصول، فالدولة ليست الغاية، بل الوسيلة التي تسعى لتحقيق الغاية، وهي المقاصد الخمسة أو المقاصد الشرعية التي تحمي بها مواطنيها، طبعا العلمانية التي نتكلم عنها ليست العلمانية الفرنسية أو اللائكية وهي العلمانية المتمايزة والمتطرفة تجاه الدين والتي تفرض أيديولوجيتها الخاصة بها، حتى مبدأ الشورى بشكله القديم غير القابل للتطبيق.

ولكن إذا تعمقنا أكثر نرى أن مبدأ الشورى يشبه كثيرا مبدأ الديمقراطية الحديثة، فهي ديمقراطية النخب بشكل ما، وهم أهل الحل والعقد، أي النخب الذين ينتجهم المجتمع الواعي والقادر على اختيار الحاكم الصالح، حتى بعض أنواع الديمقراطيات -مثل الديمقراطية المباشرة التي كانت تطبق في أثينا- غير قابلة في يومنا الحالي للتطبيق بسبب تضخم المدن والدول وعدد السكان، وهذا ما تطرق له الغنوشي في أطروحاته السياسية، فعلى سبيل المثال، لقد توسع وقارب بين الإسلام والديمقراطية، يؤكد الغنوشي الرجل الإسلامي أن العلمانية ليست أيديولوجيا وهي لا تعني الإلحاد، فهي مدارس كما هو معروف، منها الإيمانية ومنها الإلحادية التي كانت متبعة في الاتحاد السوفياتي، فإنها آلية سياسية دستورية لتحييد الدولة أيديولوجيا لتمكينها من إدارة شؤون المجتمع بتعدديته بهدف تحقيق المساواة والعدالة وحكم القانون للجميع.

ولكن العلمانية الجزئية محصورة في السياسة فقط ومؤسساتها ويجب أن تكون مقيدة بالقيم والأخلاقيات الكونية المتعارف عليها من كل الشرائع السماوية، وهي محافظة بالمعنى الاجتماعي، أي أنها تحافظ على القيم والتاريخ والتراث وتعطي للمجتمعات الحق في إدارة شؤونها المتعلقة بالزواج والميراث وتنظيم البيت الداخلي.

ليس من الضروري أن نقوم باستنساخ التجربة الأوروبية، لأنها دخلت أزمات عدة وحروب مثل الحرب العالمية الأولى والثانية، ولكن لا بد من إنتاج دولتنا الحديثة بأدوات داخلية، ولكن لا يزال مفهوم الأمة وإدارة المجتمعات المتعددة من الناحية الثقافية والدينية من الأمور التي تحتاج إلى دراسة طويلة ومعمقة إضافة إلى قضية الهوية الوطنية ودمجها مع الهوية الدينية وهوية رئيس الدولة، مثل هل هو مسلم أم يجوز لغير المسلم أن يتولى قيادة الدولة في الدولة الإسلامية الحديثة؟ كلها أسئلة سوف أحاول الإجابة عنها في المقالة المقبلة، إن أراد الله لنا أن نكمل هذا المشروع الصعب والضخم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.