شعار قسم مدونات

النبي الوزير يوسف الصديق ﷺ من الابتلاء إلى التمكين

غلاف كتاب النبي الوزير يوسف الصديق (عليه السلام) من الابتلاء إلى التمكين (الجزيرة)

إن لذة العيش مع القرآن الكريم لا يدركها إلا من ذاقها، ولا يحس بحلاوته إلا من تدبر آياته، وتعمق فيها، وعندئذ لا يستطيع أن يترك هذه الصحبة الطيبة ما دامت الحياة قائمة، لأنه يعيش مع كلام الله العزيز الذي {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد} (فصلت، الآية 42)، ولأن روحه المادية تحيا بالروح القرآني[1]، وبذلك ينسجم مع الفطرة التي بنيت أيضا على روح من عند الله تعالى فقال تعالى: {فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين} (الحجر، الآية 29).

ومن هنا فإذا أزيحت حُجب الشهوات، وطهرت النفوس من زيغ الشيطان، فإن القلوب تنتعش بالقرآن وترتقي بآيات الله تعالى فيصبح القرآن الكريم غذاء روحه وسموها، ونور قلبه، وقوته، ونفحات، وهداية عقله وموائد أنسه، وشفاء جسده، ودواء أمراضه، وعندئذ يكون من الصعب عليه الابتعاد عنه فيطلب المزيد، وهذا ما أحس السابقون الأولون، فعاشوا مع القرآن الكريم فتحققت لهم حلاوة الارتقاء، ولذة الوصال، فتمنوا ألا يفارقوه في جميع الأحوال، فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية عاش في خدمة الإسلام، ومع ذلك يقول في آخر حياته: "وندمت على تضييع أكثر أوقاتي في غير معاني القرآن"[2]، وكان الصحابي عكرمة "رضي الله عنه" يضع المصحف على وجهه، ويقول: "كتاب ربي، كتاب ربي".[3]

عاد الشيخ الصلابي بكل قوته إلى أحضان القرآن الكريم، وبخاصة إلى سير أولي العزم وهم (نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد عليهم السلام)، وقد أجاد فيها وأفاد

وأحسب أن فضيلة أخي الشيخ الدكتور علي الصلابي قد ذاق طعم القرآن ولذة الوصال معه، لذلك ترك أو أخر التأليف في التأريخ الإسلامي إلى أجل، مع أنه كان موفقا فيه، وأصدر سلسلة طيبة من السيرة وتأريخ الخلافة الراشدة، والدول الإسلامية.

فقد عاد الشيخ الصلابي بكل قوته إلى أحضان القرآن الكريم، وبخاصة إلى سير أولي العزم وهم (نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد عليهم السلام)، وقد أجاد فيها وأفاد، وأصبحت هذه الموسوعة من المرجعيات النافعة الجامعة التي نالت رضا جمهور المسلمين، وترجمت إلى عدة لغات، فجزاه الله خيرا.

واليوم عاد ليكتب عن نبي عظيم (يوسف عليه السلام)، وعن قصته التي وصفها الله تعالى بأحسن القصص {نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين} (يوسف، الآية 3)، وقد كتب كثيرون حول هذا النبي العظيم (عليه السلام)، ومنهم أنا العبد الفقير إلى الله تعالى، ولكن الشيخ المؤرخ المفسر قد أجاد وأفاد، فجمع وأضاف، وحقق وأناف، ودقق فبلغ المراد، وأفاض في ذكر المقاصد والسنن لتحقيق البصائر للناس، وبخاصة للدعاة، كما أنه قد أفاد في بيان التعقيبات الربانية على قصة يوسف (عليه السلام)، حيث فيها العبر التي ختم الله تعالى بها سورة يوسف {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} (يوسف، الآية 111).

يوسف (عليه السلام) قدوة للشباب في العفة وسمو الأخلاق، ومقاومة الشهوات، كما أنه قدوة للأقلية المسلمة في التعامل مع الأكثرية غير مسلمة من حيث التعامل بالحكمة

إن قصة يوسف (عليه السلام) في حد ذاتها مدرسة للتربية والتزكية والصبر الجميل والأمل الكبير، والسياسة الرشيدة، والإدارة الناجحة الناجعة، وبخاصة في مجال السياسة الاقتصادية، والخطة المحكمة للحفاظ على الأمة وتنميتها، وهي مدرسة القيم والأخلاق والبصيرة والتحليل العميق للمآلات، ولذلك أمر الله تعالى رسوله محمدا (صلى الله عليه وسلم) باتباع المنهج القائم على البصيرة بعد ذكر قصة يوسف (عليه السلام)، فقال تعالى {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين} (يوسف، الآية 108).

كما أن يوسف (عليه السلام) قدوة للشباب في العفة وسمو الأخلاق، ومقاومة الشهوات، فهو قدوة للأقلية المسلمة في التعامل مع الأكثرية غير مسلمة من حيث التعامل بالحكمة، ومن حيث الاتجاه نحو العلم المؤثر في حياة الناس، والتخطيط المبرمج لتصبح الأقلية أقلية نافعة تحتاج إليها الأكثرية، وليست عبئا عليها، وهذا لن يتحقق في عصرنا هذا إلا بما فعله يوسف (عليه السلام) مع أهل مصر.

كما أن قصة يوسف من بدايتها إلى نهايتها سلوى وصبر للدعاة، فنرى أن جميع خطوات المحنة هي خطوات لمنحة الله تعالى ليوسف (عليه السلام)، ولذلك لا ييأس الدعاء، فإنه مهما كانت الابتلاءات شديدة، والمحن عظيمة فإن وراءها منحا ربانية، (فإن مع العسر يسرا) (الشرح، الآية 5)، وأن الفجر يأتي بعد الظلام الدامس، وأن الليل مهما طال يسير نحو بزوغ الشمس بإذن الله تعالى[4].

استثمر المؤلف الكريم هذا التراكم المعرفي في إخراج هذا الكتاب ليعبر عن أحسن القصص، وليعطي له من العناية ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وفي سبيل ذلك، اعتمد على مصادر ومراجع نافعة، منها كتابنا: "يوسف عليه السلام قدوة المسلمين في غير ديارهم"، إذ استشهد بمحتواه ونقل عنه كثيرا بأمانة وتواضع العلماء

والحق يقال إن فضيلة الأخ الدكتور علي الصلابي قد بذل في هذا الكتاب جهدا طيبا مباركا، استثمر فيه خبرته الطويلة في كتابة التاريخ، وكتاباته النافعة حول سير أولي العزم التي أخرجها مع قصة بدء الخلق، وخلق آدم عليه السلام في موسوعة عظيمة تتكون من 6 مجلدات ضخام.

فقد استثمر المؤلف الكريم هذا التراكم المعرفي في إخراج هذا الكتاب ليعبر عن أحسن القصص، وليعطي له من العناية ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وفي سبيل ذلك، اعتمد على مصادر ومراجع نافعة، منها كتابنا "يوسف عليه السلام قدوة المسلمين في غير ديارهم"، إذ استشهد بمحتواه ونقل عنه الكثير بأمانة وتواضع العلماء، وقسم كتابه إلى مبحث تمهيدي منهجي، وأحد عشر مبحثا (أو كوكبا) على عدد إخوة يوسف (عليه السلام)، وخصص الكوكب الحادي عشر لتعقيبات ربانية على قصة يوسف، فكان حقا خاتمة المسك الذي يفوح من ذكرى شذاه المسك و العنبر و القرنفل، حيث أفاد في هذه التعقيبات الربانية وأجاد، فجزاه الله تعالى خير الجزاء وحشره وإيانا مع النبيين والمرسلين (عليهم السلام)، وتقبل الله منه، وجعله في ميزان حسناته.

{يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم} (الشعراء، الآيات 88-89) آمين.

 

هوامش

[1] إشارة إلى الآيات التي عبرت عن الوحي والقرآن بالروح مثل قوله تعالى {ينزل الملائكة بالروح} (النحل، الآية 2)، وقوله تعالى {كذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا} (الشورى، الآية 52).

[2] العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية لمحمد بن أحمد بن عبد الهادي ابن قدامة المقدسي ص 225، ويراجع الجامع لسيرة شيخ الإسلام ص 465، 669.

[3] إتحاف المهرة لابن حجر (11/ 283) والتبيان للنووي (232) وقال: "إسناده صحيح".

[4] يراجع كتابنا: يوسف عليه السلام، قدوة، طبعة ثانية 2018 دار الفداء إسطنبول ص 25 وما بعدها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.