شعار قسم مدونات

تاريخ العلم التقليدي في بلاد الصحراء

“موريتانيا أسياد الرمال”.. تراث بدوي يسامر البحر والصحراء الوثائقية
إتقان الحفظ عن ظهر قلب للطُّرر والحواشي والمتون جانب من تاريخ العلم في بلاد الصحراء (الجزيرة)

كان مَمُّو قد انفتل من صلاته في ذلك الفجر النَّدي الذي أعقب ليلتهم الماطرة، وما تزال بقايا الرعود تزمجر بين الفينة والأخرى في أعالي الأفق، وأضواء البروق تسطع حتى تعين بعض تلاميذه في استيضاح رسم كلمات كان يعاني من أجل قراءتها في صفحات مخطوطه النحوي العتيق في ذلك الغلس من شهر يونيو/حزيران.

وكما تعوّد ممو، لا يتحدث في مثل هذا الوقت حتى يَلوح قُرص الشمس من خلف الحُجب الوردية التي تأتي طلائع قبيل إشراق الصباح حاديةً شمسا ينتظرها سكّان أحياء المنهل ليبدؤوا أنشطتهم الروتينية بشغف واهتمام ومكابدة.

أعداد طلابه من حوله شكلت تجمعات أشبه ما تكون بالنجوم التي ترصّع هالة القمر وهم أدرى الناس بذلك المشهد الذي طالما أبصروه في فضاء السماء فقد خبروا جغرافية نجومها ومواضع كواكبها التي يتأملونها في العشيات خلال جلساتهم مع الشيخ وهو يغدق عليهم من معارفه ويحدثهم عن ماضيات القرون، أو لصقت بأذهانهم خلال رحلات ذهابهم وإيابهم بشتى المناطق في طلب ما تخلّف من المواشي التي لم تعد في المساءات مع القطعان، وصورة السماء حفظوها بشكل عام فمساكنهم التي تكِنُّهم هي من خيام الوبر والصوف التي لا يمكن أن تمثّل حاجزا عن درايتهم بخريطة آفاق السماء حتى وهم مستلقون على الحصائر داخلها أو على الأسرّة المصنعة من الخيزران.

خلال تلك الجلسة والشيخ ذو البشرة الحنطية والقامة المعتدلة، مستغرق في تسبيحاته وصمته، كانت تندّ أصوات باديته في الصباح.. تلاميذ يصدحون بمقطوعاتهم من هنا وهناك؛ لإتقان الحفظ عن ظهر قلب للطُّرر والحواشي والمتون التي لزموا غرْز أستاذهم -أمره ونهيه- من أجلها وضربوا أكباد الإبل إليه من أنحاء وطنهم المترامي الأطراف آمّين خيمته ورُباه وهم بذلك يروون عنه ما استجمعه من معارف الأوّلين ودرر العلوم التي بذل في سبيلها مثل بذلهم ولتحصيلها عاش من قبل مثل تجاربهم رحيلا ونَوًى وتجلّدا فكان التاريخ يعيد نفسه في حيوات الأجيال هناك خلال الحقب والدهور.

أخذت الشمس حيّزها بخفوت في ذلك الصباح وانسابت أشعتها بلطف على التلال وفوق أغصان الدوح بالوادي الذي يدثّر القرية، فأجواء المطر جلّلت المكان بطقس رائق شفاف والنسائم الزاهية تنسج خيوط يوم جميل

وتنساب في المكان من حولهم والشمس لم يكتمل طلوعها، أمشاج من أصوات النَّعم وماشيتهم الرابضة في المراعي حول الخيام، كما أن قرع كاسات الشاي الذي تعده إحدى النساء في الخيمة المجاورة قد حجز موقعه ضمن النغم العام في تلك اللحظة منبئا أن الكأس الأولى أصبحت شبه جاهزة غير أنه ليس من المعهود تقديمها إلا بعدما يفرغ الشيخ من أوراده ويستكمل صلاة الشروق.

أخذت الشمس حيّزها بخفوت في ذلك الصباح وانسابت أشعتها بلطف على التلال وفوق أغصان الدوح بالوادي الذي يدثّر القرية، فأجواء المطر جلّلت المكان بطقس رائق شفاف والنسائم الزاهية تنسج خيوط يوم جميل.

وعاد ممو إلى الخيمة، وانحنى عند مدخلها ذي السقف المنخفض حيث الحافة القماشية المبتلة التي تتساقط منها القطرات حينها بفعل مياه ليلة المطر، وكادت الحافة أن تحسر العمامة المستقرة على هامته لولا أن تداركها الطالب سيدي مثبتا إياها ومعبرا للشيخ بقوله "سلامتكم" ثم نطق بشطر مما حفظوه لدى الشيخ: "عمامته بين الرجال لواء" فاستحسن منه الصنعة وبَهَاء الفتوة.

ثم دوّى هزيم الرعد مالئا الأرجاء من حولهم، فشيّعوا أزيزه بنطقهم الجماعي مرددين (سبحان من يسبّح الرعد بحمده والملائكة من خيفته)، واستقر الحال بالشيخ في مكان استقبال الطلبة بالخيمة حيث بدؤوا يتوافدون، وبصوته الأصحل -الذي به بُحَّة- المحبب لديهم، قال عندما اطمأن به المجلس نازعا العمامة ليضعها بجانبه على وسادة الجلود المزخرفة بالتطريز المحلي المعروف في منطقتهم: إن هذا المطر الذي سقى تلالنا ونجادنا هذه الغداة هو ما يسمّى عند العرب "العِهاد" واستفسروه عن أصل التسمية فقال أين الطالب عَدُّود لتحكِ لنا عن تلك الليلة التي شهدت فيها رمال "الأيقونة" مطرا منسكبا، استغرق برهة من الوقت، ولما أقلعت مزنه قضيتم المدة نفسها في الاستماع لما جاء في "العهاد" من الأشعار والأخبار وحفظ ذلك كل فرد من الحضور، فبدأ عدود يسرد لهم ما بذهنه عن تلك الحادثة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.