شعار قسم مدونات

بالتأكيد لستُ في بوينس آيرس

الكاتب: بوجود موسيقى الجاز، كنت أرقص رقصة التانغو يا سادة، ويبدو أنني في حفلة لرقصة غربية (بيكسابي)

بالتأكيد لست في بوينس آيرس، وتحديدا لست في حي "سُور" الذي قال عنه بورخيس في محاضراته حول العمى إنه يُمثل المركز السري لسكان المدينة، المتواضع وليس الفاخر طبعا.

أنا في إحدى البلاد العربية، أتسكع في شوارعها الممتدة وطويلة المدى التي صاغها الأوروبيون واليابانيون، محلقا في أفنيتها ودهاليزها، لا أشرب من صهاريجها المليئة بالقيح ولا أخوض حربا في معاركها الهامشية التي تقع على حافة الزمن ولا تتماشى معه، وإذا بي أرى نُزلا يتدافع نحوه الكثير من السيارات الفارهة التي ينزل منها أناس قد تلحفوا بمظاهر الرقي واليُسر، انتابني الفضول وذهبت خلفهم، حتى دخلتُ من الباب المزخرف والباهر وإذا بالجموع يرتدون البزة، نساءً كانوا أم رجال، ولقد لاحظت أن كل بزة تتمحور ما بين 4 ألوان رئيسية، أسود، كحلي، رمادي، رملي، وجل ما أراه في هذه التحركات التي أشهدها أمامي هي أيادٍ على الأكتاف ويد على الخصر وبعض الحركات المدفوعة بقوة الأرجل لكي تصبح الحركة أسهل، طبعا بوجود موسيقى الجاز، نعم إنها رقصة التانغو يا سادة، ويبدو أنني في حفلة لرقصة غربية في دولة عربية ولا ضير من المشاركة بما أنني أرتدي بزة لأنني كما تعلمون مستشرق عظيم.

جلستُ أنظر بدقة شديدة لكل الراقصين حتى توقفت الموسيقى وترجل رجل أمهق، يبدو أنه صاحب هذا النُزل، وقال "شكرا على حضوركم إلى اللارد (لارد تعني بيت الرقص)، الآن سوف تسقط الإضاءة على شخصين وبشكل عشوائي لكي يبدؤوا الرقص معا".

عم الصمت المكان، ولا أخفيكم أنني لم أكن متوترا مثل البقية لأنني لا أزال بعيدا عن الوجود بين الحضور، فأنا لا أزال واقفا بشكل قريب من باب الدخول.

حتى اختار الضوء، وويلٌ لي لقد اختارني، ترجلت مرتجفا كفارس يدخل معركته الأولى مرغما بسبب سياسة حمقاء وجشع ذي الدماء الزرقاء وحماسة الحب، وويل لدهماء الحب تلك.

بدأت الألحان مجددا وظهرت أمامي سيدة جميلة تمد يدها لي بكل لطف لكي أستلم زمام المبادرة، ولأول مرة أشعر بأن الحظ قد ابتسم لي مع النساء فأنا سيئ الحظ معهن.

أخذتُ بيدها ووضعت بيدي اليسرى على كتفها وبيدي اليمنى على خصرها، وشرعنا بالرقص، لقد استنتجت فعلا بعد مرور دقيقة من الانسيابية بأنني راقص بارع، لم تلبث لحظة إلا ونظرت في عيناي، وتمهلت بالنظر إليهما.

وبعدما انتهت الرقصة قلتُ لها: ما اسمك؟

قالت: ليلى.

فقلت: أمُر على الديار ديار ليلى

أُقبل ذا الجدار وذا الجدارا

وما حب الديار شغفن قلبي

ولكن حب من سكن الديارا.

ليلى: ماذا قلت؟ لم أفهم.

فقلت لها: ألا تعرفين قيس بن الملوح؟ مجنون ليلى؟

ليلى: لا.

قلت: إذن مَن مِن الشعراء تعرفين؟

ليلى: قسطنطين كفافيس.

قلت: لا بارك الله فيك يا ليلى.

طيب يا ليلى، أريد أن آخذك إلى موعد في مكان ما وفي يوم ما، ما رأيكِ؟

ليلى: لا أقدر، "Big brother is always watching" بمعنى أن: (الأخ الأكبر يراقب دائما).

قلت: أين قرأتُ هذا الاقتباس، نعم صحيح! قرأته في رواية مزرعة الحيوان.

ليلى: شكرا على الرقصة.

قلت: طالما تخافين من الأخ الكبير، فلماذا أنتِ في مكان ترقصين فيه رقصة وهو سيئ السمعة؟

ليلى: ماذا تقصد بسيئ السمعة؟

قلت: أعني أن التانغو بدأ ونشأ في أحياء سيئة السمعة، بغض النظر عن أنه فن.

تصرخ ليلى بصوت عالٍ: لقد نشأت رقصة التانغو في مكان سيئ السمعة.

يصرخ الجميع وراءها ويتدافعون راكضين نحو الباب خارجين بنفس التدافع الذين دخلوا به، وخلال دقائق لقد وجدتُ نفسي وحيدا في هذا النزل الضخم والكبير متوسطا ساحته وفي حالة ذهول مما حصل.

جلستُ على هذا الحال لدقائق إضافية إيمانا مني بما يقوله العرب دائما "اصبرْ لين ما يركد الرمي" (اصبر حتى يرقد الرمي)، وبعد أن استجمعت نفسي بدأ التساؤل، هل فروا هاربين خوفا من الفن بل خوفا على سمعتهم؟

والأهم من ذلك، لماذا عندما يولد النور من الظلام لا يُعترف فيه؟ حيث إن ولادته تصنف ضمن الأطفال غير الشرعيين وكأن صفة الشرعية منسوبة لفئات معينة فقط؟ سحقا لقوم مستشرفين، آسف أقصد مستشرقين.. لا يهم.

وبات مظهري كما جاء في وصف المقطع الأخير من ملحمة الإلياذة "على هذا المنوال أُقيم مأتم هكتور، مُروض الخيول".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.