شعار قسم مدونات

سريلانكا قديما وحديثا.. مسرح الصراعات الجيوسياسية والجيوقتصادية

سريلانكا معروفة باسم سرنديب وسيلان في العهد القديم، ولا يزال هذا الاسم يستخدم أحيانا لأغراض تجارية وتاريخية (شترستوك)

سريلانكا، لؤلؤة المحيط الهندي ودمعة الهند المنحدرة، جزيرة صغيرة تسبح في المحيط الهندي جنوب شرق شبه القارة الهندية، على بعد 880 كيلومترا شمال خط الاستواء، ويفصل مضيق بالك بينها وبين الهند [1]. تبلغ مساحتها 65 ألفا و610 كيلومترا مربعا، وجارتها الوحيدة هي الهند التي تبعد عنها نحو 55 كيلومترا عند أقرب نقطة عبر مضيق بالك.

كانت سريلانكا مشهورة باسم سرنديب وسيلان في العهد القديم، ولا يزال هذا الاسم يستخدم أحيانا للأغراض التجارية والتاريخية، وقد استقر اسمها الحالي الرسمي سريلانكا عام 1972.[2]

تحررت سريلانكا عام 1948، بعد حوالي 150 سنة من الاستعمار البريطاني، وأصبحت دولة مستقلة. أما التقسيمات الإدارية للدولة، فقسمت إلى 9 ولايات و25 محافظة.

سكان سريلانكا

تعداد سكان سريلانكا -بحسب إحصائية عام 2012- تجاوز 20 مليونا، وقد كان عام 2009 أكثر من 18 مليونا نسمة. والتركيب السكاني السريلانكي يتكون من أجناس وديانات ولغات وخلفيات مختلفة، فالسنهاليون يشكلون أكبر مجموعة من الشعوب التي تقطن سريلانكا، ونسبتهم 74.9% من إجمالي السكان، وهم منتشرون في 25 محافظة، ومتمركزون في محافظات جنوب البلاد.[3] وأما التامليون فيشكلون الأقلية الأولى في سريلانكا، ونسبتهم 11.2% من إجمالي السكان، ويسكن أغلبيتهم في محافظات الشمال والشرق، ويتكلمون اللغة التاملية، ويدين أغلبهم بالديانة الهندوسية، و10% منهم مسيحيون. أما المسلمون فيمثلون 9.7% من إجمالي عدد سكان سريلانكا، ويعتبرون الأقلية الثانية في البلاد.

سريلانكا جزيرة الشاي وروضة من الجنة بسطها الخالق على جزء من كوكبنا الأرضي، وأجمل جزر المحيط الهندي. وقد اشتهرت بإنتاج أجود أنواع الشاي والمطاط وجوز الهند والتوابل المتنوعة، وهي في المرتبة العاشرة من حيث تنوع البيئات الطبيعية طبقا لتصنيف الأمم المتحدة، وتعيش في هذه البيئات المتنوعة أشكال متعددة من الحيوانات والطيور والكائنات الأخرى، وقد وهب الله هذه الجزيرة الأحجار الكريمة التي تعد بميزاتها الرائعة الأولى في العالم. لذلك كانت سريلانكا قديما وحديثا محط أنظار المستعمرين من البرتغاليين والهولنديين والإنجليز، وبسبب الوفود الخارجية تعددت فيها الأديان كالبوذية والهندوسية والإسلام والمسيحية.

سريلانكا تحت الاحتلال الأجنبي

لم تكن سريلانكا لتسلم من أطماع الغربيين الذين دأبوا على غزو الشعوب البعيدة واستغلال ثرواتها المختلفة، فقد تعاقب عليها كل من الغزاة البرتغاليين والهولنديين والبريطانيين في فترات مختلفة من الزمن.

بدأ نفوذ البرتغاليين على سريلانكا من 1500، فاحتلوها عام 1505، وحكموها على مدى 150 عاما تقريبا، باستثناء مملكة "كاندي" التي حاولوا عدة مرات السيطرة عليها بمعارك واحتلالها لأهميتها التجارية، لكن الجهود كلها باءت بالفشل. وتمكنوا من تثبيت وجودهم في جزء كبير من هذه الجزيرة، وقد أقاموا علاقات متينة مع بعض زعمائها للسيطرة على تجارة التوابل التي كانت بيد العرب آنذاك، ومن الجدير بالذكر أن البرتغاليين هم الذين كانوا سببا في دخول الكاثوليكية الرومانية إلى البلد، ونشروها بين السكان حتى اعتنق كثير منهم هذا الدين.[4]

ثم بدأ الهولنديون احتلال سريلانكا، وكان ذلك من خلال استعانة ملك مملكة كاندي بهم ضد هجمات البرتغاليين عليها عام 1636، وتم الاتفاق بين الطرفين على مصالح متبادلة. وبين سنة 1638-1640، استولى الهولنديون على ميناء كولومبو، وبدل تسليمها إلى ملك كاندي، استمروا في بسط السيطرة على جافنا عام 1658، وضموا معهم "ترينكوا مالي" الواقع في السواحل الشرقية، وما زالت مملكة كاندي مستقلة حتى عام 1760، فأجبروها على اعترافهم بمعاهدة مذلة، واستمر احتلالهم حتى عام 1796.

ومن إيجابيات الاستعمار لسريلانكا تطبيق النظام الزراعي الأفضل للتوابل والقهوة والسكر والقطن وغيرها، كما عرف الهولنديون بنظام القضاء وأنشؤوا المحاكم في كولومبو وجافنا وجال، وطبقوا الأحكام الخاصة بكل قوم، فطبقت الأحكام الإسلامية في مسائل الأحوال الشخصية بين المسلمين بالتشاور مع علماء المسلمين آنذاك.[5]

وفي عام 1796، مهَّد الهولنديون الطريق لبريطانيا لاحتلال سريلانكا، فجاؤوا إليها عن طريق الهند وسيطروا على كولومبو وجافنا، وفي هذا الوقت كانت مملكة كاندي مستقلة، فكان هذا مشكلة عالقة لبريطانيا، ففي عام 1815 زحفت بريطانيا نحو كاندي وفتحها بعد مقاومة بسيطة، ففرَّ الملك "سري ويكراما راجاسينها" خارج الجزيرة.[6]، وبهذا اكتمل للبريطانيين السيطرة على الجزيرة بكاملها.

وفي عام 1833، قدَّم الريطانيون مشروع إصلاحات يتضمن حثّا على الزراعة وتوسيعا للاتصالات الداخلية ورفعا لقيود ملكية الأراضي وإعلانا للغة الإنجليزية لغة رسمية ولغة تعليم في المدارس. وأيضا فتحوا الباب على مصراعيها للنصرانية وساندوها بقوَّة.[7]

وفي عام 1919، تكونت رابطة سيلان الوطنية للكفاح من أجل الحصول على الحكم الذاتي. وكان البريطانيون قد منحوا الجزيرة 6 دساتير، ثم جاء دستور عام 1931 ليعطيهم قدرا كبيرا من الحكم الذاتي، فكان هناك مجلس تشريعي كان أعضاؤه ينتخبون بالاقتراع السري العام، وكان هناك مجلس تنفيذي تقاسم فيه أهل الجزيرة السلطة مع الإنجليز. وفي 4 فبراير/شباط 1948، حققت سريلانكا استقلالها عن بريطانيا وبقيت عضوا في رابطة دول الكومنولث.[8]

الأزمة الحديثة وأبعادها الجيوسياسية

بعد انتهاء الحرب الأهلية بين القوات الحكومية ونمور التاميل عام 2009، اعتمد الرئيس السابق ماهيندا راجاباكسا (2005-2015) على قروض خارجية ضخمة لبناء المنظومة الأمنية وتعزيزها، وتنفيذ مشاريع البنية التحتية لتطوير السياحة التي تعتبر موردا رئيسيا لاقتصاد البلاد. إلا أن جائحة كورونا والهجوم الإرهابي خلال عطلة الفصح في أبريل/نيسان 2019 عطّلا السياحة تماما وجعلا البلاد منهارة اقتصاديا. اتُّهمت عائلة راجاباكسا في عهد الرئيس مايثريبالا سيريسينا بالفساد والمحسوبية وسوء إدارة السياسة والاقتصاد.

لكن سريلانكا أصبحت ساحة للصراعات الجيوسياسية والجيوقتصادية، وعرضة بين أنياب القوات الإستراتيجية الكبرى التي هي الهند والصين وأميركا.

جذور العلاقة بين الهند وسريلانكا

الهند أقرب جارة كبيرة مهتمة اهتماما بالغا بقضايا سريلانكا منذ أمد بعيد، وهي دمعة الهند جغرافيا. وبالتالي، فإن الهند تشارك بقوة ونشاط للموازنة في تنافس الصين. في هذا السياق، تمثّل الأزمة الاقتصادية السريلانكية الحالية فرصة للهند للعب دوره وتأكيد مكانتها في منطقة جنوب آسيا، ووقعت الهند اتفاقية لإنشاء محطة طاقة في شمال سريلانكا، وسيوفر هذا الانتصار الإستراتيجي فرصًا للهند للتأثير على قرارات سريلانكا السياسة في المستقبل.

ويرى الباحثون أن الهند لطالما كانت تلعب في سريلانكا دور "الأخ الكبير". ومشاركة الهند الفعالة في فترة الحرب بين الحكومة ونمور التاميل -في مفاوضات حفظ السلام وفي إنهاء الحرب- واضحة في تاريخ الحرب، رغم قناعة السنهاليين بأن الهند كانت دوما متحيزة إلى طرف التاميل، مما أدى بالحكومة إلى الميل إلى جانب الصين حينا بعد آخر.

منذ بداية الأزمة المستمرة الآن، قدمت الهند مليارات الدولارات الأميركية للاستجابة الفورية، للتغلب على الأزمة الحالية في سريلانكا، وفي ذلك بلا شك ضمان مصالحها.

وتراقب الهند عن كثب التحركات الصينية في المنطقة وبحرها، وقالت المفوضية العليا للهند في العاصمة كولومبو عن سفينة ""يوان وانغ 5" الصينية، إن سريلانكا تحتاج إلى الدعم، لا الضغط غير المرغوب فيه، ولا العداءات غير الضرورية من أجل أجندات دولة أخرى.

نفوذ الصين في سريلانكا

والصين قريبة نسبيا. وتقدَّر استثماراتها في البنية التحتية في سريلانكا بأكثر من 12 مليار دولار بين عامي 2006 و2019. وللصين مصالح إستراتيجية طويلة الأمد في جنوب آسيا والمحيط الهندي، وقد وضعت قدمها بثبات واستقرار على طول شواطئ المحيط الهندي، وهذا يشمل ميناء هامبانتوتا في سريلانكا الذي كان قد استلمته الصين بموجب عقد إيجار لمدة 99 عامًا.

وإن وصول السفينة "يوان وانغ 5" الصينية لأغراض الأبحاث العسكرية اعتبارا من 16 أغسطس/آب، تسيرها الأقمار الصناعية، أثار الكثير من القلق والمخاوف في المنطقة بشأن النفوذ الصيني على سريلانكا. هذه السفينة يديرها الجيش الصيني لأجل مواكبة إطلاق الصواريخ الباليستية والأقمار الاصطناعية. وفي المقابل، فإن الهند تعتبرها سفينة تجسس، لذلك وضعت 4 أقمار صناعية في المحيط الهندي، وخصصت سفينة حربية لمواجهة التهديد الأمني الصيني ومراقبة التحركات الصينية في المحيط الهندي.

ومن الجدير بالذكر أن سريلانكا قد منحت شركة صينية امتياز تشغيل ميناء هامبانتوتا الواقع في أقصى جنوب البلاد لمدة 99 عاما، إثر عجزها عن تسديد ديون مقدرة بـ1.4 مليار دولار أميركي للصين.

ولطالما اتُّهِمت الصين بتوفير القروض السخية لبعض الدول النامية، لتورطها في "الفخ" حتى تجعلها أسيرة في يدها. والأزمة الاقتصادية السريلانكية تخلق ظروفا إيجابية للدول الكبرى بتقديم فرص للإنقاذ، وفي المرات السابقة بلغت القروض الصينية لسريلانكا 10% من إجمال ديون سريلانكا.

مفاتيح أميركا لفتح الدول

والولايات المتحدة تملك مفاتيح صندوق النقد الدولي والبنك الدولي اللذين يعتبران آخر حبل للإنقاذ الاقتصادي السريلانكي في الوقت الراهن. وتم اتفاق بين صندوق النقد الدولي وسريلانكا على دين الإنقاذ بقيمة 2.9 مليار دولار، يمتد على 4 أعوام لاستعادة الاقتصاد المنهار في الأعوام الماضية. فالديون من أية دولة كانت تعتبر سلاحا قويا للسيطرة على قرارات حكومتها ووضع قدم ثابتة على أرضها.

ولا بد هنا من الإشارة إلى أن سريلانكا تحتل موقعا إستراتيجيا على جانبي الممرات البحرية في المحيط الهندي. فظهرت في السنوات الأخيرة بشكل ملحوظ في النقاشات الدولية المتعلقة بالمشهد الجيوسياسي الآسيوي، وكل قوة من القوى الثلاث لها مصالح خاصة بها في سريلانكا تدفع كلا منها إلى الدخول في الصراعات المثلثة.

وهناك تنافس صيني أميركي في المحيط الهندي في ميدان سريلانكا. وفي الوقت نفسه، يظهر حينا بعد الآخر تجاذب بين أميركا والهند، الحليف الإستراتيجي لها. وعلى أميركا اتخاذ كل الإجراءات اللازمة لتحسين العلاقات الأخوية بين الولايات المتحدة والهند، حتى لا تفقدها لتنزلق إلى الطرف الصيني والروسي. وسريلانكا تدرك حدة هذا الصراع والتنافس الإستراتيجي بين القوى الكبرى في أرضها، لكن متى تصبح سريلانكا ذات قرار وسيادة مستقلين؟

 

—————-

[1]  Mohan, Vasundhara Muslim of  Srilanka, Aalebh Publishers, Jaipur, (1 1985, p 1).

[2] Gerald, "The Physical Environment", in Srilanka: a survey, edited by K.M. DeSilva(hamburg: Institute of Asian affairs, 1977), 3.

[3]  Joane Maher, ed. “The Europa World Year Book” (London: Routledge Taylor &Franis Group, 2009) Vol.2, 4033. Department of census and Statistics- Srilanka,”Brief Analysis of Population and Housing Characteristics”, http://www.statistics.gov.lk/pophousat/p.

[4]  Alan Strathern, Kingship and Conversion in Sixteenth Century Srilanka: Portuguese Imperialism in a Buddhist Land, (United Kingdom: Cambridge University Press,2007)21-22.

[5] Silva, Historical Survey, 58.

[6]  Elizabeth Nissan &Stirrat, “The Generation of Communal Identities” in Srilanka: History and Roots of Conflicts, edited by Jonathan Spencer, (London and New York: Routledge, 1990) 26-30.

[7] Ibi.

[8]  عتريس محمد، معجم بلدان العالم: جغرافي، اقتصادي، تاريخي، سياسي، سريلانكا، (مصر: الدار الثقافية للنشر، ط1، 2002)، ص 266.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.