شعار قسم مدونات

العقود والعهود في أزمنة الوباء والأزمات

لأهمية العقود فقد اعتنى بها الفقهاء من الشرعيين والقانونيين على حد سواء (الجزيرة)

أمر الشرع بالوفاء بالعقود والتزام العهود بغية حفظ حقوق الناس في معاملاتهم، ومن ذلك قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة: 1]، والأمر بالوفاء بهذه العقود كما قال العلامة السعدي أمر بإكمالها وإتمامها، وعدم نقضها ونقصها. وهو شامل لكافة العقود التي بين العبد وربه، والتي بينه وبين الخلق من عقود المعاملات، كالبيع والإجارة ونحوهما، فيجب الوفاء بالعهود والعقود مطلقا.

ولأهمية العقود فقد اعتنى بها الفقهاء من الشرعيين والقانونيين على حد سواء؛ فوضعوا فيها مصنفات مستقلة، تناولت شروطها وأسبابها ومبطلاتها، كل ذلك محافظة على حقوق العباد، ولهذا صاغ الفقهاء القانونيون قاعدة مفادها أن العقد شريعة المتعاقدين؛ أي أن العقد ملزم لكلا المتعاقدين بمقتضى الاتفاق متى وقع صحيحا، ولا يجوز لأحدهما أن يستقل بنقضه أو تعديله إلا برضا جميع أطرافه، فإن لم يتم هذا الرضا، ظل للعقد قوته الملزمة.

وتسري قوة العقد على سلطة القاضي، فتقتصر مهامه على النظر في النزاع المتولد عن العقد من جهة تكييفه وتفسيره إذا كانت بنود العقد غير واضحة، ولكن قد تحدث طوارئ خارجة عن إرادة المتعاقدين، مما يضع المتعاقد (المدين) أمام مشقة الوفاء بالتزاماته للطرف الآخر، وقد يصل الأمر في بعض الأحيان إلى استحالة الوفاء، فيصبح العقد وسيلة لجلب الشقاء إليه، كأوقات الأزمات نتيجة تغير الظروف الاقتصادية، كما الحال في ظل تداعيات وباء فيروس كورونا (كوفيد-19).

ولمواجهة تلك الظروف اضطر الفقهاء الشرعيون إلى وضع فتاوى علمية لما كان يعرض من ظروف تطرأ أثناء تنفيذ الالتزام، عرفت في الفقه الإسلامي عبر ثلاثة مظاهر، وهي:

  • الأول: الجائحة التي تصيب الثمار فتجيز تعديل العقد. وقد توسع المالكية والحنابلة فيها أكثر من غيرهم.
  • الثاني: تقلب قيمة النقود الذي يجيز تعديل العقد، وقد أفاض في بيان حكمها ابن عابدين الحنفي (1252هـ) في إحدى رسائله التي أسماها "تنبيه الرقود على مسائل النقود". وقد قامت هذه الفتاوى على القواعد الكلية، المتمثلة في امتناع الضرر، ومنع أكل أموال الناس بالباطل، وامتناع الحرمة المستمدة من نصوص الكتاب والسنة.
  • الثالث: العذر الذي يطرأ على عقد الإيجار، فيجعل تنفيذه مرهقا أو مستحيلا، فيجز للمتعاقد المتضرر طلب فسخ العقد. وقد توسع فيه الأحناف، وهو موضع الدراسة هنا.

ولا يختلف الحال بالنسبة للتشريع الوضعي، فقد انبثقت نظريتان تعرفان بنظرية القوة القاهرة ونظرية الظروف الطارئة، وقد بلور القانون الفرنسي في منتصف القرن التاسع عشر مجموعة من الأحكام المؤيدة لمبدأ احترام العقود. ويحدد عذر القوة القاهرة في الأحوال التي لا يمكن توقعها ولا تجنبها، والتي تجعل الوفاء مستحيلا تماما.

ثم كان للمحاكم أن عدلت العقود في إطار مبدأ القانون الفرنسي الإداري المتعلق بتغير الظروف عند حدوث صعوبات بالغة ومفاجئة بغية الحفاظ على الخدمات العامة والتوازن المالي.

وقد تغلغل هذا المبدأ فيما بعد في مجالات القانون الخاص كليا. وقد قبلت المحاكم الألمانية من جهة أخرى المبدأ الخاص بأن للقاضي سلطة إعفاء أطراف العقد في حدود ضيقة من التزاماتهم العقدية. ولا يعمل هذا في أحوال الاستحالة فحسب، بل يعمل كذلك في أحوال غياب الأساس الذي يقوم عليه العقد، كما حكمت المحاكم أنه يمكن تعديل عقد الإيجار برفع القيمة الإيجارية بالنظر إلى الارتفاع البالغ للتكلفة الواقعة على أصحاب العقارات، كما أنه يمكن إعادة تقويم الديون في ظروف التضخم الحاد الذي حدث في عشرينيات القرن الماضي.

وجدير بالإشارة إلى أن نظرية الظروف الطارئة وضعت على يد أصحاب مدرسة بارتول في القرن الثاني عشر على أساس قاعدة تغير الظروف، مؤداها أن العقد يفترض فيه شرط ضمني هو أن الظروف الاقتصادية التي عقد في ظلها تبقى عند تنفيذه ولا تتغير تغييرا جوهريا، فإذا تغيرت بحيث يصبح تنفيذ العقد جائزا بالنسبة إلى أحد المتعاقدين، وجب تعديل العقد ليزول الحيف الناشئ من هذا التغير المفاجئ في الظروف الاقتصادية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.