شعار قسم مدونات

عقول تائهة في عالم الميتافيرس

تدهور مستوى التحصيل الدراسي للطفل وفقدانه الاهتمام بتكوين صداقات خارج العالم الافتراضي، تعتبر من المؤشرات إدمان الكمبيوتر. (النشر مجاني لعملاء وكالة الأنباء الألمانية "dpa". لا يجوز استخدام الصورة إلا مع النص المذكور وبشرط الإشارة إلى مصدرها.) عدسة: dpa
أصبحنا نعيش مع دمى تتحرك ببطارية تُشحن بآراء الناس (الألمانية)

إلى الذين ليست لديهم صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي، لأن حياتهم ملتصقة بتراب الواقع؛ إلى الذين يتصفحون على الجرائد والمجلات ويتنفسون الكتب ويستمتعون باللحظة أكثر مما يتظاهرون بفخامة الصور المزيفة، لأنهم تذوقوا الطعم الحقيقي لحياتهم في الكواليس، تحية لكم فطعم حياتكم مختلف، لقد حررتم عقولكم من قيود التعلق وعبودية مشاهد المثالية التي طغت في وقتنا الحالي، وشبح المقارنة الذي سكن النفوس الضعيفة.

أصبحنا نضيع كثيرا من وقتنا على أدواتنا الصغيرة من الحواسيب والهواتف، نضيعه على هراء تافه، نتجول في عالم الميتافيرس ذهابا وإيابا بدون غاية مدركة. فإذا اكتفيت بالجلوس متفرجا عبر نافذة هذا العالم، ستفهم لماذا أضحى جبر الخواطر وعلو اليد الصادقة ينقرض تدريجيا، وستدرك أن طعم الابتعاد عن هذه المواقع لا يعرفه إلا الذين أيقنوا قيمة الحياة الحقيقية والوقت الذي نلتمسه.

يا ليت الزمان يعود بنا للوراء سنوات ضوئية، لعلنا نلتقي بقلوب أرائكها مريحة ورائحتها دائما شهية، قلوب دافئة تحكي لنا عن جمال الحياة بدون ارتداء ثوب المثالية المزيف. فقد أصبح الزمن الحالي مربوطا بفضاء افتراضي يعد محطة سلبية، حيث يرمي فيها الناس ضغوطاتهم وأي شيء مماثل، لقتل كل ما هو جميل، والأقلية منهم من تجدهم يستخدمونه بذكاء.

لماذا لا نجعل هواتفنا مصدر ثروتنا الفكرية؛ فإما أن نتبع خطة لاستغلال المواقع في وقت معين بما يعود علينا بالفائدة، وإما أن نسعى للتطور بعيدا عنها

أصبحنا نعيش مع دمى تتحرك ببطارية (تُشحن) بآراء الناس، تخوض حربا لاقتناء أسلحة الشهرة البائسة وتتميز بغباء موثوق مغلف بذكاء حاد. في دستورها أسماء (بديلة) كثيرة للحرام، فالربا أصبح ربحا ماديا عاديا، والغيبة والنميمة صراحة، والكذب ثقة وذكاء، والاعتداء على الضعفاء قوة. ورغم ذلك تجد الكثير من البشر منغمسين في هذا الفضاء راغبين في قضاء المزيد من الوقت هناك، أكثر مما يقضونه في الواقع وكأنهم مستعدون لمشاهدة كل أنواع الهراء والأكاذيب الملونة التي تلبسها دمى تتقن الرقص على بكاء الآخرين، وتكذب ببراعة تثير الفزع، وتغطي حقيقتها بأكاذيب واهية، ورغم ذلك تجد القطيع يتقنون فن التصديق بفظاعة ومستمتعين بالتأمل في حياة الدمى المبالغ فيها ويعجبون بمثالتيها المزيفة، مثلما يعجب المرء بالمقدسات المرتبة في خزانة زجاجية أو على رفوف إحدى الدكاكين الفخمة فتجدهم تائهين كسفينة ضائعة في عرض البحار البعيدة. تخيل فقط كمية المعلومات الرديئة التي يخزنها العقل يوميا، كلما قمت بجولة في هذا الفضاء!

يرى البعض أن الاطلاع على مواقع التواصل الاجتماعي من الضرورات اليومية الأكثر أهمية، حيث يتصفح أغلبهم هذه المواقع قبل النوم مباشرة وصباحا فور الاستيقاظ، وكأنهم يلتزمون بوصفة دواء فيه آثار جانبية أكثر من العلاج.

من الطبيعي أن يستخدم الناس مواقع التواصل الاجتماعي للتنفيس عما بداخلهم، سواء حول موضوعات فنية أو سياسية أو غيرها من المواضيع، فالأهم في ذلك كله هو طريقة إمضاء الوقت في هذا العالم الافتراضي أكثر من مقدار الوقت الذي نقضيه فيه.

عندما تمرض أجسادنا إما نخضع للجراحة أو للدواء، ولكن عندما تمرض عقولنا يجب أن ترتاح جيدا، فأحيانا نحتاج لغلق باب هذا العالم الافتراضي

فهناك من يستخدم مواقع التواصل الاجتماعي وسيلة للترفيه، وربما لإضاعة الوقت وربما للانغماس في الجانب السلبي؛ والغريب في هذا الأمر هو أن تعليقاتهم تشبه في الغالب موجة لا تنتهي من التوتر والضغوط. في حين أن آخرين أدركوا مدى قوة الإنترنت فاستخدموها بشكلها الفعال.

لماذا لا نجعل هواتفنا مصدر ثروتنا الفكرية؛ فإما أن نتبع خطة لاستغلال المواقع في وقت معين بما يعود علينا بالفائدة وإما أن نسعى للتطور، بعيدا عنها إذا كانت تشتت تفكيرنا، فهي تحصرك في قوقعة روتينية مملة، فتصبح مجرد صبي يتابع الأحداث الفارغة ولعبة عدد المتابعين المملة التي أصبحت موضة العصر.

عندما تمرض أجسادنا إما نخضع للجراحة أو للدواء، ولكن عندما تمرض عقولنا يجب أن ترتاح جيدا، فأحيانا نحتاج لغلق باب هذا العالم الافتراضي ولو لمدة قصيرة، فالتخلي عنه سيجعلك تحقق أهدافا عظيمة؛ لأنك وفرت كثيرا من الوقت الذي كنت تهدره في تجولك العشوائي في غرفه، بغرض إمضاء الوقت في المكان نفسه وكبت الفراغ الذي بداخلك.

لا تتبع موجة الفاشلين، تعلم أن تحب انعكاسك في المرآة مهما بدا مضطربا، واعمل جاهدا كي تحرق الدهون الملتصقة في دماغك التي سببت لك الغباء الذي أصابك بعد الانغماس في العالم الافتراضي. وإذا أردت أن تكون ممتنا لكل شيء قدمته في حياتك، ارفع ذهنك ووعيك إلى مستويات جديدة واهرب من الفضاء الافتراضي الذي قطع الصلة بينك وبين نفسك. تعلم أن تختار تصفية كل ما يستفزك من صداقات افتراضية سامة وأبواب مواربة يتسلل منها الأذى وحوارات كلها استفزاز مبطن، فإذا تحررت من هذه الفراغات القذرة وأعطيت الأولوية لكل ما يضيف لك حقيقة وحياة، ستكتشف أن قدراتك الإنتاجية تضاعفت، فتتعلم كيف توازن بين حياتك الحقيقية والحياة الافتراضية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.