شعار قسم مدونات

من فنون الإقناع والجدل الحسن

داخل جامع اتشاملجا أكبر مساجد أوروبا خلال رمضان رمضان (الجزيرة)
من مقومات الدعوة الهادئة أن تخاطب الناس على قدر عقولهم وتستدر محبتهم فتنتزع اهتمامهم (الجزيرة)

يعاني كثير من الناس من أساليب بعض الدعاة الجافة والجوفاء طبقا لقلة اللباقة والكياسة ووفقا للشدة والحدة فيما تعرف بأزمة توصيل المعلومة لمتلقيها، على النقيض من ميزة تحبيب المعلومة، فتتسع الشقة النفسية بين الدعاة والمدعوين أكثر وأكثر بحيث لا يسمعونهم بأذن واعية ومن صميم الفؤاد، فيضيع مجهودهم الصادق -بحسن نية- هباء تذروه الرياح.

يقول العلامة محمد إقبال:

حديث الروح للأرواح يسري

وتدركه القلوب بلا عناء

هتفت به فطار بلا جناح

وشق أنينه رحب الفضاء

ومن الطرائف ما حدثني أحد الفتية به، وهو الآن يرتاد المساجد بانتظام، إذ إنه ارتكب من المعاصي والآثام -في جرأة مشينة- ما ارتكب حتى ضاق به إخوته ذرعا فطلبوا إلى والدتهم أن تتدخل حفاظا على سمعة الأسرة، فتبرأت منه قائلة له "اترك الدار فورا"، وذلك لكثرة سوابقه الإجرامية بحكم مساءلة الشرطة لهم بين الحين والآخر.

فخرج من البيت وهو يسير على غير هدى، فقابله رهط من الدعاة وطلبوا إليه أن يصحبهم إلى المسجد ولو إلى حين، فما كان منه إلا أن زجرهم وشتمهم، وهددهم بأنه صاحب "سوابق"، والأفضل لهم أن يتركوه وشأنه وإلا سينال منهم ما ينال.

فكان جوابهم "إنك شاب جميل ووجهك يشع وضاءة وجلالا، ولعلك لم تفطن إلى ذلك، فلماذا لا تصحبنا لمدة نصف ساعة فقط من وقتك الغالي؟".

فقال: توقفت حينها عن شتمي لهم، وعجبت من كلامهم، فقلت لهم "سأذهب معكم ولكن بشرط وهو: بعد نصف ساعة لا أريد أن أرى وجوهكم الدميمة هذه مرة أخرى" وكنت أنفث دخان السجائر في وجوههم وهم صابرون عليّ صبرا أدهشني من كيفية تحملهم له.

وقالوا لي لن تدخل المسجد حتى تغتسل وتتوضأ، وما كنت أعرف كيف يتم ذلك، فأوضحوا لي برفق وأدب جم كيفية الاغتسال والوضوء، وبعدها صعقت عندما سمعت وشاهدت أمرا عجبا في المسجد من قول لين وتلطف وتفضل سلوكي وحكمة ومعلومات لم أسمعها عند الأخلاء من ذي قبل.

فقلت لهم: هل لي أن أجلس معكم نصف ساعة أخرى؟ فرحبوا بذلك أيما ترحاب، وامتدت نصف الساعة الأخرى إلى أيام ثم شهور وأنا مرافق لهم حتى بعدما نفدت فلوسي كانوا يقتسمون ما عندهم معي من زاد إلى أن سخر الله لي إحدى أخواتي -وهي معلمة- أن تبعث لي مصاريف إعاشة خلسة من غير علم أسرتي، وقد فتح الله علي بعمل مجز، ولكن أستحي وأخاف أن أقابل والدتي جراء ما صنعت أيام طيشي وقلة عقلي في زمن جاهليتي، والحمد لله ها أنذا تبت إلى الله توبة نصوحا بحوله وقوته.

فذكرت له أن يدع أخته تتوسط إليه عند أسرته الكريمة، ولا سيما أنه بعد خروجه من المنزل قد جعل الله منه داعيا هادئا وصبورا.

على صعيد آخر، كثير من المخلصين المتحمسين للدعوة -خاصة بعض الشباب- لم يؤتوا من العلم والسلوك الأخلاقي نصيبا موفورا فيبعدون لا يقربون، ويفرقون لا يجمعون، وينفرون لا يحببون، فتكون جهودهم الدعوية كارثة عليهم وعلى غيرهم لأنهم يفتقرون إلى المدخل الصحيح الهادئ بالتي هي أحسن، يدفعهم إلى ذلك التسرع وقلة المعرفة وربما الغيرة والحرص على نشر دينهم الحنيف إفهاما وترسيخا، فهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.

يقول الدكتور علي الصلابي: إن هنالك 3 فروق مهمة بين المسلم الحق والمسلم المتشدد (في تشخيص رائع):

  • أولا: المسلم الحق مشغول بإيمانه، أما المسلم المتشدد فمشغول بإيمان غيره.
  • ثانيا: المسلم الحق يسعى لإدخال نفسه وغيره الجنة، فيما المسلم المتشدد يسعى لإثبات أن غيره سيدخل النار.
  • ثالثا: المسلم الحق يبحث للآخرين عن الأعذار ليغفر لهم الأخطاء والزلات، أما المسلم المتشدد فيبحث عن أخطاء الآخرين وهفواتهم لمعاقبتهم والتكلم عنهم.

وهنالك دعاة مخلصون -بلا أدنى شك- يتحلون بمؤهلات دعوية لا غبار عليها ولعلهم هم الأكثرية، وإسهاماتهم الراشدة في هذا السبيل محفوظة ومقدرة، نفع الله بهم وهدى.

ومن الدعاة الغافلين من يغالي في إقصاء الآخرين الذين ليسوا من حزبه أو طائفته أو جماعته بعدما ينصّب نفسه قاضيا وحكما على الآخرين من غير مؤهلات علمية وسلوكية ومن غير أسوة حسنة تبدو جلية للعيان في صفاء روحه ولطف تعامله صبرا و"تمرحلا" كما أشرنا في سابق حديثنا.

ومثل هذا يحتاج إلى تأهيل علمي تطبيقي -وليس تأهيلا نظريا- في فن التقديم والتحاور بعيدا عن "الخطاب التصادمي" و"تجريم الآخرين" و"تعميم الحكم" و"سياسة الإقصاء"، والفتوى بغير علم أو استحقاق من غير تأن وتمحيص، وربما يواجه في الأغلب "قوما لا يعلمون"، فالأحرى به أن يتريث ويتقرب إليهم نفسيا بالمداراة والقول الطيب والسديد والمعروف واللين وفقا لما جاء في محكم التنزيل: "فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى" (طه: 44)

والبعض يصنف نفسه من العلماء لمجرد "تجنيده" في المدارس والجامعات، وهو ضعيف الأساس بحيث ينجرف بسرعة مع أول سيل عارم بحكم هشاشة مخزونه العلمي وخبرته المتواضعة.

من مقومات الدعوة الهادئة أن تخاطب الناس على قدر عقولهم وتستدر محبتهم فتنتزع اهتمامهم

وهو على الأقل لا يجيد لغته العربية الأم، لغة القرآن الكريم، نحوا وصرفا واشتقاقا، تحدثا وكتابة وقراءة، أو ما تعرف بالقدرة التعبيرية حتى يفهم بها ويفهم غيره على السواء، إذ يكتفي بحفظ بعض الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، ويظل يرددها من غير طرح مدلولاتها ومراميها، شرحا وافيا مقنعا.

يقول الإمام علي رضي الله عنه:

ألا لن تنال العلم إلا بستة

سأنبيك عن مجموعها ببيان

ذكاء وحرص واصطبار وبلغة

وإرشاد أستاذ وطول زمان

وكما قيل:  ليس كل من ركب الجياد بفارس، وتكلم يا هذا حتى أراك

وقلة المحصول العلمي في أيامنا هذه زادت الطين بلة، فأصبح الحديث من غير علم ومن غير خبرات "إنجازيه".

أصبح أمرا لا يتورع منه إلا من رحم، بالإضافة إلى إسناد الأمر إلى غير أهله، وغير ذلك الكثير والمثير، وآن لنا أن نتساءل: أليست هذه هي السنوات الخداعات التي ينطق فيها "الرويبضة"؟ وهو "الرجل التافه يتكلم في أمر العامة" كما جاء في الحديث النبوي الشريف.

وهذه طامة كبرى تنبئ عن مستقبل غائم من الخلافات والصدامات التي تستحدث بفعل الجدليات والتعصب الأعمى و"الفوقية" وعدم "مرحلية" الدعوة وتدرجها، حيث يؤدي ذلك إلى كثرة المحن والفتن ما ظهر منها وما بطن في ظل إعجاب كل ذي رأي برأيه وفرحة كل ذي حزب بحزبه "كل حزب بما لديهم فرحون" (المؤمنون: 53).

من مقومات الدعوة الهادئة أن تخاطب الناس على قدر عقولهم وتستدر محبتهم فتنتزع اهتمامهم كما فعل التجار والدعاة المسلمون من الصينيين والهنود والعرب -خاصة الحضارمة والعمانيين في جنوب شرق آسيا- منذ القرن التاسع من الميلاد حتى انبثقت إلى الوجود أكبر دولة إسلامية في العالم، وهي إندونيسيا التي يزيد سكانها على 200 مليون مسلم، كل ذلك بإتقان لغات القوم والسلوك الإسلامي الواعد، صدقا وأمانة، وتواضعا وتوادا وتكافلا وتراحما، من غير استعلاء أو ازدراء يبطنهما بعض القوم ولا يجاهرون بهما علنا.

وقد جاء في دراسة لأحد الباحثين "الحقيقة أن قصة انتشار الإسلام في جنوب شرق آسيا تعد من أعظم قصص انتشاره في العالم، فالمسلمون لم يذهبوا إلى هذه المناطق شاسعة المساحة عظيمة السكان بجيوش فاتحة ولم يخوضوا مع أهلها حروبا تذكر، وإنما ذهبوا إليها كتجار يحملون أخلاق الإسلام، وهي الدعوة إلى الله، وذلك بالحسنى والمعاملة الحسنة، فحققوا القاعدة الأصيلة التي تؤكد أن الإسلام إنما يغزو القلوب لا الأراضي أو البلدان".

كان الداعية أو العالم المسلم من السلف الصالح "موسوعة تمشي على قدمين"، إذ يجمع بين معرفة الفقه وعلوم القرآن الكريم والأدب والألسنة السائدة حينها، والترجمة، والعلوم بأنواعها، الطبيعية والكيميائية والفيزيائية والرياضية والهندسية والطبية والفلكية وغيرها، فينبغي أن ندعو الناس في تؤدة ورفق وتجرد ومن غير جلبة معيبة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.