شعار قسم مدونات

إبراهيم سعدون وتعاليق ذوي القربى الشامتين أشد مضاضة

إبراهيم الطاهر السعدون/ المحكوم بالإعدام في روسيا لقتاله في أوكرانيا
إبراهيم الطاهر السعدون المحكوم بالإعدام في روسيا لقتاله بأوكرانيا (مواقع التواصل)

أسوأ ما قد يحدث لك يا صديقي أن تتقاسم الانتماء مع جمهور "نزار" و "ندى" و"حريودة" وبعض الأسماء التي يصفعني بها اليوتيوب كلما سولت لي نفسي وضغطت الأيقونة الحمراء على شاشة هاتفي..

أسماء غريبة.. جمهور مريض وفيديوهات عجيبة لم تنجح قط في إثارة فضولي لأتنازل عن سلمي الداخلي وذوقي لأفتحها.. فالعناوين كانت منفرة.. مقززة.. مستفزة وتافهة.

استمعت أنا الأخرى إلى رأي الشارع المغربي وإلى جمهور "القايدة" لا أتذكر اسمها و "ولد اليابانية" أو الصينية، ومن ألطاف الله أننا لسنا بحاجة لأعداء، فمن يتقاسمون معنا الوطنية يتكفلون بالجلد والسحل الإلكتروني ويتسابقون إلى السب والشتم في وسائل التواصل التي تم اختراعها بالأساس لتشجيع المواهب.. لكنهم معذورون.

تصور أن تكون "باك ناقص 5" بلا هوايات ولا شخصية ولا آفاق ولا طموحات ولا تسامح مع الذات ولا المجتمع، تمضي يومك في مشاهدة شجارات النسوة وصراعاتهن اليوتيوبية، وتستثمر ليلك في مساندة الجدران وترقيع الشوارع والأزقة، ثم فجأة يكشف لك الإعلام عن وجود نابغة يقاسمك الوطنية والهوية، يتقن 5 لغات، يدرس علوم الفضاء بمنحة كاملة، لكن مشكلة هذا النابغة أنه أسير حرب ومهدد بالإعدام.. يا مرحبا بالشماتة!

أول ما يكتشف هذا الصنف وجود مخلوقات مثل "إبراهيم سعدون"، يشعر برغبة شديدة في الانتحار، يشعر بضآلته وصغر حجمه، يقارن خيبته بطموح شاب بلغ درجة دراسة علوم الفضاء فتبدأ أعراض الاكتئاب تتسرب إليه، ثم يتذكر أن بإمكانه تعليق فشله على أكثر من مشجب، لذلك سيلقي باللوم كالعادة على الأهل والمجتمع والدولة والحكومة وثقب الأوزون والصفائح التكتونية وسلالات البطريق الإمبراطوري، وما إن يصل إلى فقرة الإعدام التي يتهدد حياة سعدون حتى يبتسم بشماتة: جاء الفرج!

يعتذر للنسوة صاحبات الألقاب الغريبة المتصارعات في اليوتيوب، ريثما يدخل إلى الفيديوهات التي تتحدث عن "إبراهيم سعدون" ليترك تعليقا أو اثنين تفوح منهما رائحة الخبث ونتن الخبائث، متسائلا باستغراب عن سبب وجود هذا النابغة في أوكرانيا بعيدا عن "نزار" و"القايدة"؟ ومن أين له هذه الوقاحة التي تدفعه إلى دراسة علوم الفضاء بينما هو يحاول تسلق جدار التاسعة إعدادي منذ سنوات؟

لماذا يحارب في صفوف دولة "كافرة"؟ لم هو غير متدين كفاية كباقي المؤثرين الذين يتابعهم بوفاء منقطع النظير؟ ما قصة انفتاح "سعدون" على كل الأديان؟ فيتعوذ بالله من الشيطان الرجيم ويعود لمتابعة آخر أخبار صراعات حمامات اليوتيوب الساخنة..

يحمد الله في تعاليق كثيرة على نعمة الإسلام، ويدعو إلى إعدام الشاب الذي شذ عن المألوف، وقد كان بإمكانه أن يدرس هنا ويأخذ شهادة في التاريخ أو الجغرافيا تمكنه من أكل "علقة" محترمة مع المعطلين.. ينشأ فرقة موسيقية شعبية تبحث عن مكامن "الحلاوة" وتعطي الوصايا اللازمة لمن هو بصدد التوجه إلى "العلوة".. أو يصنع محتوى هادفا يتم فيه تبادل الشتائم في العلن وتقاسم أرباح "ادسنس" في الخفاء، ليسلي فئة عريضة من الشعب العميق التفكير..

أكثر ما يستفز هذه الفئة التي تهاجم "سعدون" بشراسة هي تلك الرزانة والثبات اللذان تحدث بهما الشاب إلى الإعلام، بعد أن حكم عليه بالإعدام ظلما، وقد تعودوا على دموع ومخاط "اكشوان" وأشباهه، وأدمنوا الهرولة داخلين أفواجا وزرافات كلما لاح لهم فيديو عنوانه "انهيار فنان بالبكاء".. الشاب بدا متماسكا إلى درجة تثير الحسد!

ما يخفى على هؤلاء أن "سعدون" وقع على العمل مع الجيش قبل اندلاع الحرب، ممنيا نفسه باستكمال الدراسة وحتى العمل في مجال كان ضربا من الخيال، ومن كان يظن أن روسيا ستجتاح أوكرانيا؟

الشاب كان في مهمة دراسية مع الجيش قبل اندلاع الحرب، ثم وعلى حين غرة، وجد نفسه رفقة زملائه في ساحة حرب مفتوحة، ثم إنه بالنهاية سلم نفسه طواعية لمليشيات انفصالية، وهذا خطأ وقع فيه ويثبت عدم معرفته بأبسط ما يعرفه الجندي الأوكراني الحقيقي المتمرس..

بل لقد أخطأ بالأساس في الانضمام إلى الجيش الأوكراني، وقد كان بإمكانه النأي بنفسه بعيدا عن المتاعب، لكن تاريخ الانضمام يؤكد انخراطه قبل اندلاع الشرارة الأولى للاجتياح الروسي وقد يكون هناك ما دعاه لذلك، من غير الارتزاق والدموية، فالشاب أبعد ما يكون عن هاتين الصفتين..

أما مسألة التدين من عدمه، فلا ننسى أن "إبراهيم" في مرحلة البحث وتشكيل شخصيته لم يختر بعد معتقدا ثابتا، فتلك قناعة شخصية ليس من حق أحد إقحام أنفه فيها، وليست مبررا للمطالبة بإعدامه أو الشماتة بمصيبته، فهو منا ونحن نقبل به كيفما كانت خياراته وقناعاته وحتى معتقداته.. وأكثر من يدرسون معتقدا قبل اعتناقه يكونون قمة في الرقي والأخلاق والعطاء..

سن العشرين لا تخرج "سعدون" من المراهقة، وهي السن التي تجعل الشاب يتخبط هنا وهناك بحثا عن قطع تكمل ما ينقص شخصيته، ولا أعلم سبب سؤال الصحفي الخبيث "إبراهيمَ" عن دينه وراتبه، ربما أراد أن يزج به في مستنقع الإرهاب والتطرف، وقد كان الشاب يقظا!!

وإن أكثر ما يؤلم ويحز في القلب لهو احتشاد بني جلدتك في الخندق المضاد بدل الاصطفاف إلى جانبك، فحتى إذا كتبت لهذا الصغير النجاة، فستظل صدى كلمات هذه الفئة تتردد في خلايا عقله وقلبه كلما اشتاق للوطن وحن لوجع هذا التراب..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.