شعار قسم مدونات

ماغنوس كارلسن.. الرجل الذي هزم الجميع ثم هزمه الملل

ماغنوس كارلسن بطل العالم للشطرنج الكلاسيكي (مواقع التواصل الاجتماعي)

أعلن بطل العالم للشطرنج الكلاسيكي، النرويجي ماغنوس كارلسن عزوفه عن الدفاع عن لقب بطل العالم في العام المقبل، ضد الأستاذ الروسي الكبير يان نيبومنياتشي.

وكان كارلسن ونيبومنياتشي قد تنافسا على بطولة العالم في الشطرنج في نوفمبر/تشرين الثاني 2021، حيث فاز كارلسن بنتيجة 7.5: 3.5، بأربعة انتصارات للنرويجي على الروسي و8 تعادلات بين المتنافسَين.

وشهدت البطولة أداء متعادلًا من الطرفَين حتى الجولة السادسة، والتي استطاع فيها بطل العالم كارلسن أن يهزم الأستاذ الروسي الكبير نيبومنياتشي بعد تضحيةٍ مثيرةٍ بالوزير، وهو أقوى القطع على رقعة الشطرنج، مظهرًا متانةً وصبرًا عظيمين في أدائه.

وقد كسرت هذه المباراة الأرقام القياسية من حيث طولها، حيث امتدّت لـ7 ساعات و45 دقيقة متواصلة، ظفر في نهايتها الأستاذ النرويجي الكبير بنظيره الروسي، ومن هناك بدأت المنافسة تأخذ طرف النرويجي؛ حيث فاز بعدها بـ3 مباريات وتعادل في اثنتين ودافع عن لقبه بطلا للعالم بنجاح.

وقد استهلّ كارلسن تجربته في بطولة العالم للشطرنج عام 2013، حيث واجه الأستاذ الهنديّ الكبير فيسواناثان أناند، وهزمه ليصبح بطلا للعالم في عمر 21. ولكي يعود وينافس على لقبه الضائع، فاجأ الهنديّ الجميع بفوزه الكبير في بطولة المرشّحين، والتي ترشّح فائزها للعب على بطولة العالم للشطرنج، ليعاود منافسة كارلسن مجددًا، ويخسر له مجددًا في بطولة العالم 2014.

عُرف عن كارلسن اهتمامه الكبير بلياقته البدنية، حيث نشر العديد من المقاطع المصوّرة على حساباته في مواقع التواصل، وقد صرح باحثون في مجال الطب والرياضة بأن لعبة الشطرنج تحتاج لياقة بدنيةً عاليةً؛ لأنّ الجسم يستهلك الكثير من السعرات الحرارية خلال المباريات، خصوصا المباريات الكلاسيكيّة التي تمتدّ لساعات كما أبرزنا في البداية.

ومن ضمن المهارات التي يحتاجها لاعب الشطرنج ليبرع في هذه اللعبة مهارةُ ضبط النّفس، فاللعبة قد تؤدي باللاعب أحيانا إلى أن يشعر بالتوتر والقلق والغضب والحيرة، وكلّها مشاعر من شأنها التأثير على تركيزه واستيعابه، وبالتّالي على أدائه فوق الرقعة.

وقد مرّ النرويجي كما تُنبئنا مسيرته، بمراحل ساعدته في صقل موهبته وأكسبته المهارات التي جعلته بطل عصره بلا ندٍّ حقيقيّ؛ إذ كان كارلسن في صغره لاعبًا هجوميًّا عنيفًا في توجّهه، وهو ما لم نعد نراه منه مع نضوجه، واستبدل بذلك التهوّر الصّبر والتّروي ممّا عاد عليه بالمنفعة كما هو واضح.

ومن يشاهد مباراته ضدّ الإيطالي فابيانو كاروانا على بطولة العالم 2018، يرى بوضوحٍ الصّبر والضبط الكبيرين للبطل النرويجي، وقدرته على التحمّل؛ حيث انتهت نتيجة المباريات الـ12 بالتعادل، ثم انتقل المتنافسان إلى 4 مباريات شطرنج سريع، يحصل فيها كل طرفٍ على 25 دقيقة، وهناك سحق كارلسن نظيره بـ3 انتصارات متتالية ليفوز ببطولة العالم مجددًا ويطيل فترة تربّعه على عرش الشطرنج العالمي.

وممّا هو جديرٌ بالذّكر أنّ النرويجيّ لم ينس أسلوبه الهجوميّ العنيف الذي اتّسم به في صغره، على الرغم من تصريحنا بتحوّله رويدًا رويدًا إلى لاعبٍ أكثر نضوجًا، ففي بطولة العالم لعام 2016 أظهر ماغنوس كارلسن تفوّقًا ملحوظًا ونبوغًا ملموسًا على منافسه الروسيّ حينذاك، سيرجي كارياكن، الملقب عالميًّا بوزير الدّفاع؛ لصلابته وحسن تعامله مع هجوم الخصوم. وفي تلك البطولة أظهر كارلسن المزيج المثاليّ بين الدّفاع والتروّي، وبين الهجوميّة والإبداع لينتصر مجدّدًا ويستمرّ بالتّغريد وحيدًا في سماء الشطرنج العالمي.

تمكّن كارلسن في جيل الـ19 أن يتصدر قائمة التقييم العالمي، ونجح كذلك في الوصول إلى أعلى تقييم للاعب شطرنج في التاريخ بوصوله لـ2889 (تصنيف غير رسمي) و2882 (تصنيف رسمي) وما زال حتى يوم النّاس هذا محافظًا على هذا الإنجاز على الرغم من هبوطه لتقييم 2865.

يذكر أنّ لعبة الشطرنج قد حازت زخمًا عالميًّا كبيرًا في إغلاق كورونا الكبير، الذي فرض على الناس في العالم أجمع المكوث في بيوتهم، وجرّاء ذلك تعرّف عدد كبير منهم على لعبة الشطرنج في رحاب الشبكة وبدؤوا يمارسونها على هواتفهم وحواسيبهم، ممّا زاد من شهرة اللعبة وأعاد إحياءها في أذهان النّاس ربّما بصورةٍ لم يشهدها العالم من قبل.

وكثرت الأقاويل عن تاريخ الشطرنج القديم ومن أين خرجت هذه اللعبة للعالم، فيذكر المؤرخ المسلم ابن خلّكان (ت: 681هـ/1282م) أنّ اللعبة اخترعت في الصّين بأمرٍ من الملك شهريام، والذي أراد اختراع لعبة تضاهي لعبة النّرد التي اخترعها ملك الفرس أردشير الأوّل، وراح يفتخر بها أمام سائر الملوك كإنجاز غير مسبوق، ممّا أدّى بالحكيم الهندي صصه بن داهر أن يخترع لعبة الشطرنج الأولى إذعانًا لأوامر شهريام.

أمّا على الرقعة نفسها، فإنّ كلّ لاعب يبدأ المباراة بـ16 قطعة، 8 منها تسمّى بالجنود أو البيادق أو المُشاة، وهم أضعف القطع ويتحرّكون مربعًا واحدًا إلى الأمام فقط، أو مربّعين في حالة واحدة وهي تحريك الجندي لأول مرة، فإذا تم تحريكه فلا يمكن بعدها إلا تحريكه مربعًا واحدًا في كلّ نقلة.

وهناك قلعتان تقفان على أطراف الرقعة في الصفّ الخلفّي، وتتحرّك القلعة على طول الرقعة وعرضها بشكلٍ عموديٍّ وأفقيّ، وتنشط هاتان القطعتان في المراحل المتأخرة من المباراة في أرجح الأحوال. أمّا الفيل فهو يتحرّك بشكل وتريّ، ويقدر على التنقّل من أبعد نقطة في الرقعة إلى أقربها، كالقلعة، بنقلة واحدة.

وهناك الحصان أو الفارس، والذي يتحرّك بشكل يشبه حرف "إل" (L) باللغة الإنجليزية، وتتميّز هذه القطعة بقدرتها على القفز من فوق القطع الأخرى، وهي الوحيدة من قطع الشطرنج الحائزة على هذه الميزة. وأقوى القطع على الرقعة قطعة الوزير، أو الملكة باللغة الإنجليزية، وحركة الوزير مزيج من حركتي القلعة والفيل فهو قادر على التنقل عموديًّا وأفقيًّا ووتريًّا بحريّة، ما يجعله أثمن قطع اللاعب.

وآخر القطع وأهمّها هو الملك، والذي بموته تنتهي المباراة بخسارة صاحبه، والملك يتحرّك في كلّ الاتجاهات كالوزير، ولكنّه يتحرّك مربّعا واحدا فقط في كلّ اتجاه، ما يجعله ضعيفًا وهشًّا محتاجًا لحماية سائر القطع.

وقد شهدت لعبة الشطرنج تطويرًا مستمرًّا عبر تاريخها مذ إنشائها، وأدت كثرة ممارستها وسعة انتشارها بين الأمم والشعوب لأن يضفي عليها أهل بعض البلدان نظريّات جديدة، وأسماء مختلفة، حتى ثبتت عليها القوانين التي نراها ونعرفها اليوم.

ولهذه اللعبة فوائد كثيرة للعقل البشريّ؛ فهي تعوّد صاحبها إتقان التخطيط، وتعلّمه التفكير بالحلول المختلفة في المواقف المختلفة، ويُنصح بها كثيرًا للأطفال بالذات؛ لسرعة حفظهم ولكثرة حيويّتهم، فهي تعلّمهم التفكير الحسابيّ الدّقيق، وتعوّدهم على ضبط النّفس في لحظات التوتر والغضب والقلق والشك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.