شعار قسم مدونات

الجوع والثقافة

شاب من مرتادي المكتبة -تسليم مادة من نواكشوط إلى مرأة. أنشأت مكتبة وترأستها كيف صنعت وفاء رياض الوعي في المجتمع الموريتاني؟
خصوصية الثقافة المحلية "الوطنية" تتراجع أمام هيمنة الثقافات الغربية الوافدة (الجزيرة)

الجياع لا يحرقون اليابس ولا يأكلون الأخضر، لأن حرق اليابس ثورة والأخضر ثقافة. وليس ثمة بد من الدخول في جدلية مفهوم الثقافة بين الباحثين الاجتماعيين والمفكرين، فالجميع يكاد يتفق على المعنى العام للثقافة وعناصرها المركزية الثابتة التي لا يمكن أن تتغير مهما بلغت فروعها وحواشيها من تطور يحابي تغيرات العصر.. والمشكلة لم تعد تكمن في التنظير والمفاهيم الاصطلاحية وإنما هي مشكلة انفصال الجمهور عن الثقافة.

في الحقيقة ليست كل ميادين الثقافة منكوبة، فهناك ما نكبه الدهر من أدب وفنون كالرسم والمسرح، والكتابة الفكرية والإبداعية خاصة الشعر.. وإذا اتخذ الراهن المسرحي أو الراهن الشعري في الجزائر أنموذجا، فإن السؤال الذي يطرح نفسه: كيف لم تستطع تلك الجماهير التي شغفها الشعر حبا أن تورث ذلك الحب لأبنائها كما تورثهم الدم والأرض والمال؟

أين أبناء جمهور الشاعر "مفدي زكرياء"، أو حتى "محمود درويش" و"نزار قباني" عند زيارتهما لهذا البلد؟ أين أحفاد جمهور أبو المسرح الجزائري "محيي الدين بشطارزي" أو "عبد القادر علولة"؟ ولعل الاستثناء الوحيد في ميادين الثقافة المنكوبة هو الغناء والرقص، إذ يحظى هذان المجالان بشغف المتابعة المليونية رغم ما يتخللها من مشاهد قميئة وتدني في مستوى النص وتكرار المواضيع غالبا، وقد صار من السهل القيام بعملية إحصائية عنها من خلال منصات العرض الرقمية.

وبالمقارنة بين الماضي والراهن الثقافي يمكن تحديد 3 بواعث أساسية لانفصال الجمهور عن الثقافة، في مقدمتها الفرق الجلي بين العناصر البنائية لشخصية الشاعر أو المفكر أو الفنان في الماضي القريب واليوم، والمقصود هنا الجرأة الأدبية والفنية والسياسية الفطرية التي يتميز بها المتقدمون من الشعراء كمثال، مع التأكيد على أنها فطرية دون تصنع ولا تكلف.

وفي حديث القامة الإعلامية الجزائري الراحل "عبد العزيز بوباكير" عن الزيارة الوحيدة للشاعر العراقي الكبير "مظفر النواب" إلى الجزائر وما أحياه من أمسيات شعرية جعلت القاعة والشارع الرئيسي في فيضان بشري عام 1977، ذكر أن الفضل في استضافة "مظفر" يعود إلى الشاعر "أحمد حمدي" «رغم احتجاج السفارة العراقية ومحاولة مخابرات "صدام حسين" منعه كما عبر عن ذلك حرفيا الراحل "بوباكير" على صفحته بفيسبوك بتاريخ 20 مايو/أيار الماضي، وهو تاريخ رحيل الشاعر الثائر.

وبالإضافة إلى ما سلف ذكره، هناك باعث آخر أشد خطورة، وهو هيمنة الرأسمالية التي أفرغت الإنسان من القيم الروحية وتسببت في تفشي وباء العولمة الثقافية (Cultural Globalization) حيث تتراجع خصوصية الثقافة المحلية (الوطنية) أمام هيمنة الثقافات الوافدة (الغربية)، وهو ما يصطلح عليه أيضا بالثقافة الجماهيرية، تلك التي يخضع فيها العالم لنمط ثقافي موحد أو بالأحرى واحد. ويتصل الباعث الثالث بالباعث الثاني نحو انفصال الجمهور عن الحياة الثقافية، فالمذهب الرأسمالي رسم للإنسان المعاصر حلم تحصيل الثروة وفقط، وأوهمه أن الرفاهية التكنولوجية والعلمية تغنيه عن الكثير من المعاني الروحية.

هذه الرفاهية الغائبة في معظم مجتمعات العالم الثالث، وبالتالي الفاقة والحلم الهلامي بتكوين ثروة أو الحلم البسيط بامتلاك رغيف العيش جعل أفراد المجتمع يلهثون طوال الوقت وراء ذلك، وجعلت الأنشطة الثقافية والمعرفية الجادة مجرد بذخ وترف على موائد الأثرياء في نظر الشعوب الجائعة، لدرجة أن مصطلح المثقف والثقافة في حد ذاته صار مادة للسخرية على جدرانهم الافتراضية في مواقع التواصل.

وبالعودة إلى الوهم الشائع عن أن الرفاهية التكنولوجية والعلمية تغني الإنسان عن المعاني الروحية السامية والميادين الاجتماعية والإنسانية كالآداب والفنون فإن الكاتب الأوروبي "دينيس كوش" (Denis Koch) في كتابه "مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية" عنون أحد عناصره المهمة بعنوان: "ابتداع المفهوم العلمي للثقافة".

وهو عنوان يدفعنا نحو التأمل في العلاقة الفلسفية بين الثقافة والعلم، والنظر العميق في جميع بواعث انفصال الجمهور عن الحياة الثقافية من أجل تصحيح مسار العلاقة، ووضع حد للجوع الثقافي الذي تعيشه معظم الشعوب ولا تشعر به وبآثاره الوخيمة وتهديداته للأمن الفكري.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.