شعار قسم مدونات

في الأردن.. الصعود الثالث للأحزاب

من مسيرة الأحزاب القومية - الأردن
من مسيرة الأحزاب القومية بالأردن (الجزيرة)

حسناً، لو سألت شابًا ما المصطلحات التي يكرهها لقال: التشاركية، الاشتباك، التعددية، المواطنة، الهوية، والأحزاب.

هناك مغالاة في استخدام النخبة لمصطلحات التفرد والسيطرة تفتقد للروح والوضوح، عقول الشباب الذين يُراد تجنيدهم بعيدًا عن الأيديولوجيا، لم تتشرب بعد فهمها، هذه الرؤية الإقصائية يتبناها أمراء الأحزاب الجدد للصعود الثالث.

فخريج الجامعة يجهل المصطلحات، والمزارع أو المهني لا يقدر على استيعابها، إذن، لماذا يتحدثون هذه اللغة المستوردة؟

نهاية الأيديولوجيا

أنتجت نظرية نهاية التاريخ والأيديولوجيا، للأميركي فرانسيس فوكوياما صراعا دمويا، أحزابا ومنظمات أصولية إسلامية وتيارات يمينية أوروبية – أميركية متطرفة، نهاية دشنت بداية للصراعات، هذا ما اعتمدته إدارة جورج بوش الابن وطاقم المحافظين الجدد الذين أغرتهم "الدولة النهائية العظمى" لإشعال الحروب بذخيرة صموئيل هنتنجتون ونظريته، هذه النظرية التي أجبرت فوكوياما على الانسحاب والإقرار بعدم صحة أقواله لاحقا.

لكن الهجمة قد ترتد في وقت بدل ضائع، إن لم تُعجب صاحب قرار يستمد شرعيته من أيديولوجية تاريخية ودينية، لذا يصير العبث بالمفاهيم التاريخية والإنسانية والوطنية والاجتماعية والثقافية والدينية بحجة نفي الأيديولوجيا، تشكيكا بشرعية الحكم والنظام ذاته.

عباءة السيطرة

الغد أجمل؟ وصفة طوباوية، لكنه مجهول كظل حاضر مُرهق، ففي عُرف الدولة يؤجل كل شيء إلى حين تشكيل أحزاب قوية، دون اعتماد سؤال فشل المشروع في إثبات فعاليته، فهل تُترك الدولة بوجه الرياح لأفكار تعود بالجميع إلى المربع (صفر).

لهذا، الإنكار والتأجيل سيناريو يناسب عقلية النخب الحاكمة في إنتاج قيادات جديدة، مُسيطر عليها، تحمل نصف أفكار وإصلاح وأحزاب وإرادة، دون قيم أو قيمة، تختبئ خلف برامج عليا مبنية على الأيديولوجيا لا من خارج رحمها، في واقع سياسي سائل مختلط بخوف من المجهول.

صحيح أن إيجاد أفكار برامجية يمكن محاسبتها دون تقديس أو تفرد في السلطة ضروري، وعلى الضفة الثانية تمثل الأيديولوجيا صيرورة المجتمع وقوته لقيادة ذاته، للخروج من عباءة سيطرة الفرد والخوف، لكن السلطة لا تأكل جسدها.

الظل الطويل

قبل أسابيع، تابعت محاضرة حزبية، المتحدثون لغتهم جميلة، الطرح افتقد للمعنى، مصطلحات مقدسة ظلها طويل، تحتاج إلى إعادة تعريف وتبسيط، يتقنها المتحدث ويرتبك في فهمها المستمع.

من جانب آخر، يعتمد المتحدث (ون) على ذاكرة بصرية سمعية (قيل وقال) تشبه ذاكرة المستمع، وكلاهما انعكاس لثقافة سائدة تتسم بالحدة، تسير باتجاه واحد، أخبار سريعة ترتبط بصور متناثرة يسمعها ويراها، تاريخ يرفض مناقشته، عادات يراها تعاليم دينية، ودينا يعتقد بجموده، فيما نظرية المؤامرة تُشعل عقله، كل هذا لا ينشئ استقرارا لمساندة تجربة تُمكن الإبداع، بقدر ما تخلق فوضى وهزات عنيفة، تشتت الجهود في كل مرة اعتقد فيها "المتحدث والمستمع" بالتقدم!

مثلا السيد سمير الرفاعي رئيس اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية يزور جميع مناطق الأردن للحديث عن أهمية الانخراط في العمل الحزبي، لكنه ليس حزبيا، يتحدث من منصة الأغنياء الخاصة لا من أرضيات الفقراء العامة، الزيارات جيدة لكنها ليست كافية، هذه صفة غالبة تنطبق على غيره!

الخبز قبل الحزب

أردنيا، صار تشكيل الأحزاب "موضة " يحاول البعض ارتقاء أمواجها، لإقناع البسطاء بأهميتها، مع غياب الأرضية، ما يحدد مساراتها مقدما، أليست الأرضية مصابة بالعطب باعترافهم، وتحتاج سنوات لتأهيلها، في غضون ذلك، يحاول المتحدث الهروب من إجابة الأسئلة الشائكة على أمل اكتشافها مستقبلاً.

في الحقيقة يملك أصحاب الرؤية تجربة سياسية طويلة، في حين يفتقدون للتجربة الحزبية غالبا.

لكن إقناع الشباب بالعمل الحزبي والمشاركة السياسية، في ظل سيطرة عقلية عرفية تزرع الخوف في أذهان الأجيال لا يمكن أن تنتج شيئا، فما يقوله هؤلاء من أحاديث منمقة على أرض الواقع يتعارض مع ما تفعله السلطات، وهو أمر محزن محبط.

يرغب الشباب بسماع أحاديث الفساد والعدالة والحقوق، البطالة والمخدرات، أحاديث رغيف الخبز والعمل، كما يرغبون في الحديث عن جائع فقير أو مُعطل عن العمل، عن آمال وئدت وأفكار قتلت، عن حاضر موجع ومستقبل غريب، أليس رغيف الخبز والجوع والصحة والتعليم يسبق ترف الأحزاب وخطابها؟!

الشعبوي والفئوي

زيادة على ذلك، هناك فئات بسيطة فاعلة في المجتمع، لا تعي معنى الكثير مما يقال بحكم غياب المعرفة، تسعى للفهم والمساهمة بمشروع "شعبي وطني" لا "نخبوي فئوي" لكن ما يرونه في الواقع يُصنع وفق رؤية تلائم فئة سواء القادمة من أعماق السلطة وأزماتها أو من أعماق مصالحها الشخصية وآمالها، وهذا يتطلب إيجاد آليات لاحتوائهم، شباب مندفع بحدة في نقاشاته يشبه حدة السلطة في أزماتها وتعاملها مع الشعب.

قبل سنوات، كان الانتماء للأحزاب مثل الإخوان المسلمين أو الشيوعيين أو البعثيين أو العلمانيين والليبراليين، تهمة جاهزة، إن لم يعاقب صاحبها من المجتمع عُوقب من الدولة.

اليوم انتهى كل شيء، سَالت الأفكار، هيا أعيدوا تشكيلها، الإعادة هنا "لهاية" طفل صغير، لا ضير من إيجاد أحزاب بعيدة عن الأيديولوجيا الفكرية والسياسية والدينية والرأسمالية في سبيل رفع قيم المواطنة العليا للدولة الجامعة بكل مكوناتها، لكن السؤال هل يمكن بناء تيار سياسي برامجي دون أن يغوص في أعمق أعماق الأيديولوجيا والسياسة، رغم أن شرعية النظام ذاته تُستمد من الأيديولوجيا.

في الحقيقة استخدام الفكرة يعني إبعاد أو رفض تشكيل تيارات إسلامية أيديولوجية ترتكز على الدين في برامج عملها، فهل كانت الأحزاب الإسلامية سببا فيما وصلت الدولة له؟

أيديولوجيا الإنكار

لذا، يمكن فهم سياسة التخلي كوسيلة متقدمة لصياغة الأحزاب الجديدة لخلق غاية للانتهاء من الأفكار الكبرى، لهذا من الأهمية بمكان أن تعيد "النخبة" صياغة لغتها وأدواتها الخطابية الجديدة، لإعادة تشكيل الوعي ليناسب مشروع السلطة القادم، وليكون أقرب للفهم الشعبي لا النخبوي، صياغة تُمكن الجميع من المعرفة والوعي والمشاركة.

لبدء الحديث عن المستقبل لا الماضي وعن رفع القداسة عن الأيديولوجيا المحكية للتفسير لا للدخول في متاهات الإنكار والإقصاء، عن خلق عالم أيديولوجيا يمثل مجتمعا ووطنا لا خلق صراعات حول السلطة.

ربما الغد أجمل، وعلى رأى السيدة فيروز "إيه في (نعم هناك) أمل"!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.