شعار قسم مدونات

التنك اللامع

الشهرة
الكاتب: أهيب بكم أن تتقوا الفتنة وبريقها والشهرة ورونقها والمعجبين وانقيادهم لكم وأن تلزموا التواضع فإنه خلق كريم (مواقع التواصل الاجتماعي)

إنك ولا ريب تمر في هذا الفضاء العنكبوتي بشتى الأسماء والصور، وربما أكثر منها من الموضوعات والمنشورات. فترى أقواما يناقشون في السياسة بين تحليل وجدل، وأخر يتكاتبون في أمور الكرة ومختلف الرياضات، هذا يدعم الفرقة الفلانية وذاك يعلل ما الذي يرفع لاعبه المفضل فوق سائر اللاعبين في تحد وإصرار يبلغون مبلغا ترتفع فيه الأصوات وتنفخ فيه الصدور وتقدح فيه الأعين بالشرر أحيانا. وغيرهم يتكلمون في الدين وشؤونه تاريخا وحاضرا، فقها وعقيدة، والنقاشات لا تكاد تنتهي بين المؤمنين والنفاة*، حتى تعود فتتجدد أشد ضراوة من ذي قبل.

*النفاة مصطلح ابتكره أبو العلاء المعري لوصف المنكرين لوجود الله سبحانه وتعالى، الذين نسميهم اليوم بالملحدين، فالإلحاد لغة (وفق اللفظ القرآني والمعنى) يعني الحيد والزيغ أو الانتقاص ولا يعني النفي.

وكل هذا وأكثر بكثير؛ يجعلون هذا الفضاء الرحب من مجرد فسحة للترفيه عن النفس يدخله كثير من الخلق بغية تضييع الوقت بحثا عن مسرات لحظية إلى ما هو أشبه بصالون ثقافي افتراضي عصري، ينكشف عند تسجيل دخوله إليه على ما يسر من علم وأدب ووعظ، وعلى ما يضر من تحوير ممنهج تارة وعشوائي في تارات للتاريخ والعلم بشتى صنوفه واختلاف ألوانه. وفي خضم هذه الصراعات الثقافية والحوارات التي تتواصل تواصل الليل بالنهار، يبرز بين الحين والحين أنفار قلائل من ذوي اللسان الفصيح، والقلم البليغ، والحجة الدامغة، ينادون بما نادى به أبرّ الناس، ويدعون لما فيه الشرف الرفيع والخير الوافر في اتباع مكارم الخلق والحرص على سلامة الاعتقاد، فيجتمع حولهم الناس اجتماع القوم على المغنم النفيس طلبا لتلقي ما تنار به عقولهم مما يجدونه من الحكمة المقنعة وتطرب له قلوبهم من الوعظ المؤثر؛ لأجل ما يرونه من حسن مضمون وبديع صياغة تقدمه لهم هذه الشريحة من كتّاب ومدونين مرة تخلف أختها.

بيد أن الواقع وما يصلنا من الحوادث المتواترة يظهر غير المأمول من فئة واسعة من هذه الشريحة من المدونين والمتكلمين في القضايا العامة، الدينية منها والوطنية على وجه الخصوص والتحديد. إذ إن في الانبهار المتكون لدى القارئ القليل الثقافة أو معدومها، وهم بطبيعة الحال أسرع القراء انقيادا وأكثرهم عددا، ما يعطي هذه الفئة من الكتاب قدرة التأثير عليهم فكرا وربما عملا، فلصاحب الثقافة وحائز البلاغة من الأثر ما يشبه السحر على فاقدهما، وهذه الموضوعات بالذات -الدينية والوطنية- هي أكثر الموضوعات تأجيجا للعواطف وجذبا لقلوب العوام، وهي إن نفذت إلى قلب الإنسان الذي لم يحز علما يعينه على فرز ما يستقبله، ولا مرجعا راسخا يقفل صوبه ليستوثق ويتيقن؛ فإنها تكاد تكون الدرب الأكيد لهلاكه.

وليس ما أكتبه في هذه السطور وليد الفكر والتخمين فقط، ولا هو ثمرة استنتاج أو تأويل، بل هو وليد التلقي والخبر الذي لم يزل يطرق بابي من أطراف شتى، وقد كنت قد تحدثت في هذه المسألة من قبل مرارا وتكرارا بغير إسهاب كلما توجه إلي مخدوع مسكين يريد لينفث بعض غيظه، آملا أن يتعظ القارئ فيحفظ أسوار نفسه من تسلل المخربين المنمقين، ولقد وجدت أغلب ضحايا هؤلاء "المثقفين" من الفتيات الطيبات العطوفات المتعطشات للقدوة الحسنة، اللاتي لم يكدن يبلغن 20 ربيعا، أو من المطلقات أو الأرامل اللاتي يكابدن مجتمعا جهولا بحقوقهن، ظلوما في معاملتهن؛ فيخشين فضح الذليل لئلا يصبحن مادة للشائعات.

وإحدى القصص التي وردتني في البريد من أخت التمست فيها من الخلق والتعلق بالدين ما يطمئن له الخاطر، أن كاتبا معروف الاسم كثير المتابعين، وهو رجل جاوز الـ40 عمرا، قد أنعم الله عليه بالزوج والولد، ومنحه اتقاد الذهن وحسن البيان -مقارنة ببيان العوام الذي تطغى عليه ركاكة التعبير وسوء الإنشاء- ولكنه ابتلاه بقلب عليل يهوى الشهرة ويتخذ في سبيل إدراكها سبلا فيها ما لا يخفى من خرم للمروءة وحطّ من قيمة النفس، قد لحظتها عليه في بداية مشواره التدويني، إذ جمعتني به صحبة رقمية تلك الفترة. ولم يزل هذا الأستاذ يغازل هذه الأخت المسكينة نثرا وشعرا ويراودها عن نفسها متسلحا بما بوّأه إياه الناس من منزلة رفيعة فيهم، حتى آل بها المآل أن تخاف من ولوج هذا الموقع خشية أن تصلها رسالة تحرش جديدة منه. والعجب ليس هنا، فقد وصلنا من هذه الأخبار الشيء الكثير، ولكن العجب في أن هذا الأستاذ ظل من أكثر المنادين بضرورة تطبيق الشريعة المحمدية الغراء، ومن أشرس الكتاب في تقبيح الفكر الغربي في وعي الناس، وما يعقبه من انحلال في أخلاق المسلمين. وكم من مرة مدح حجاب المرأة في كتاباته التي ينشرها على العلن، وحثها عليه؛ حتى ذاع صيته وبرز اسمه واستحسنه القراء، فرفعوه مقاما ساميا كما ذكرنا، وغالوا في الثناء عليه وعلى محتواه، ومحتواه جد حسن ولكن ما عرف أكثرهم أنما هم يرفعون وحشا ضاريا.

واستمرت صداقتي الإلكترونية التي جمعتني به حية زمنا لا بأس به؛ لكوننا الاثنين نتشارك التدوين والكتابة، إلى أن وقفت على الخبر، ولما أبرمت أمري على إطلاعه على الخطب، وعزمت على مواجهته بما بين يدي من الحقائق في اتصال هاتفي، وجدت أستاذنا لا يكاد يفقه قولا ولا يجيد بيانا، وقد كشفت لي ردوده عن إنسان مهزوز الشخصية، واهن العزم، لا يصدق في مقالته فتعذره وترجو توبته، ولا يحسن الكذب فتحار في شأنه أو تخدع به، وأدركت بعد حين من النظر في شأنه في أي عالم حالك يحيا هذا الرجل، وما أبرعه من ممثل! كيف طوّع حروف اللغة لغايته واستغل جناب الدين الحنيف ليسعى في إغواء نساء المسلمين، ناكثا عهد الإسلام في صون الأعراض، ومتعريا من ثوب الرجولة وهو معتكف في محراب رغباته الدهماء.

ولست أرمي في هذا الموضع إلى الإساءة لفرد بعينه، فقد نأيت عن فضحه رحمة بزوجه وولده على الرغم من خطر فعله، ولكن ما أنشده هو إيقاظ الوعي لدى القراء، ألا يسلموا قلوبهم للكاتب والمدوّن وإن أعجبتهم كتابته، وأقنعتهم حجته، وإنذار الغافل أن من الناس من هو شيطان في ثوب قديس، وكما روي عن وليام شكسبير أنه كتب يوما:

إن الشيطان لا يمانع تلاوة الكتاب المقدس ليحصل غايته.

فهذا هو شيطان شكسبير، يعظم القرآن على الملأ ثم لا يتورع عن حرمات العالمين ينتهكها طغيانا. وقد أثر عن السيد الفاروق أنه قال في بعض قوله:

لا يعجبكم من الرجل طنطنته،

ولكن من أدى الأمانة وكف عن أعراض الناس فهو الرجل.

وها هو الرجل يطنطن فيختم له الناس بختم الصلاح. ونذكر في هذا المقام الحقيقة التي جلّاها سيد الحكمة ورسول الرحمة -صلى الله عليه وسلم- أحسن جلاء في قوله الشريف:

الناس معادن كمعادن الذهب والفضة…

وها هو ما دون التنك يرفع فوق الذهب لسوء الحيطة وغياب الكياسة. وقد كان من كلام علمائنا المتقدمين وإرشادهم أن يكتفي المسلم باستيعاب الحكمة حيث لقيها بلا انجرار وانقياد وراء من لقيها عنده، إذ لا تؤمن من الحي الفتنة، ولا يرى من التفرس في ظاهر المرء باطنه، وانظر شاعر عصره الجواهري وهو يتفنن في رسم هذه الحكمة رسما على ألحان موزونة يقول فيه:

تلفعت بالتقوى وثوبك غيره

فلله ذياك الضلال الملفع

وللزملاء المدونين أقول: لا تدعوا ثناء أدخل السرور إلى قلوبكم أن ينسيكم حقيقة أنكم بشر خطاؤون، وكتّاب محاسبون على ما صدر منكم وبدر في كل سطر وصفحة ومقالة. وإني أهيب بكم أن تتقوا الفتنة وبريقها، والشهرة ورونقها، والمعجبين وانقيادهم لكم، وأن تلزموا التواضع، فإنه خلق كريم يكرم به صاحبه كرما لا يناله متكبر، ولا يظهر عليه وضيع، وأن تكونوا على قدر من الاستقامة يليق بحيث تموضعتم، وأن تذبّوا عن تاريخ أمتكم وحاضرها بما ملّككم إياه المالك من غزير المواهب وسعة العلم، فقد اتسع الرتق على الراتق، واصطدم مركبنا بصخور الدهر، فإن لم نتعاون على البر مسّتنا يد الهلاك جميعا، وإن لم نتسامى عن الفردانية كان الغرق في سيل الذل العرم قدرا لم يغادر منا أحدا إلا غمره.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.