شعار قسم مدونات

طوابير الجوع المرة.. يوم استخدم الغذاء كسلاح ضد العراق

عراقيون في أثناء تسلم مواد غذائية من الدولة أيام الحصار (رويترز)

عادت الحرب الروسية على أوكرانيا لتسلط الضوء مجددا على ملف الأمن الغذائي واستخدام إمداد الغذاء كسلاح، وسط تبادل الاتهامات بين الطرفين بالمسؤولية عن ذلك. وتتهم أوكرانيا روسيا بشن هجمات على الموانئ وفرض حصار عليها، وترد موسكو بالقول إن أزمة الغذاء ترجع إلى العقوبات الغربية المفروضة عليها.

وتعيد هذه الأزمة إلى الأذهان استخدام الغذاء كسلاح لإجبار القيادة العراقية في عهد الرئيس الراحل صدام حسين على الانسحاب الفوري من الكويت، عبر فرض حصار دولي بموجب قرار من مجلس الأمن صدر في السادس من أغسطس/آب 1990، ونص على فرض عقوبات خانقة على العراق.

معاناة إنسانية

وواجه العراقيون خلال أعوام الحصار -الذي استمر حتى الغزو الأميركي للبلاد عام 2003- معاناة إنسانية كبيرة بسبب حرمان البلاد من المواد الغذائية والأدوية وأبسط مقومات الحياة، وصلت إلى منع استيراد الأقلام الرصاص للمدارس العراقية، بذريعة الخشية من استخراج الرصاص وإذابته واستخدامه في صناعة الأسلحة، كما منعت توريد سيارات إسعاف للمستشفيات العراقية، بحجة أنها يمكن أن تحوّل إلى سيارات عسكرية.

كما عاش العراقيون حالة من القهر والهوان تمثلت في مشاهد مؤلمة توجع القلب عندما كانوا يصطفون في طوابير طويلة من أجل الحصول على طبقة بيض أو دجاجة، وباتوا -وبعضهم كان من نخبة المجتمع وصفوته- يحلمون برغيف الخبر وبكيفية جلب قوت يومهم، وكانوا يتسمرون أمام شاشات التلفزيون، انتظارا لمكرمة الرئيس العراقي صدام حسين، بمنح ربع كيلو عدس لكل فرد أو علبة زيت وما شابه، تسبقها دعاية هائلة، في وقت كانت تنعم فيه القيادة العراقية وأعوانها بمباهج الحياة.

ويستذكر العديد من العراقيين بكثير من المرارة تلك الأيام، وكيف كانوا يحتفلون عندما يتناولون اللحم أو الدجاج أو البيض في المنزل، أما الموز أو التفاح أو الفواكه الأخرى، فكانت نوعا من الترف.
وشهدت قيمة الدينار العراقي انخفاضا قياسيا، وبلغت قيمة الدولار الواحد ما يعادل 3 آلاف دينار عراقي عام 1995، بعد أن كان الدينار يعادل 3.3 دولارات عام 1980، أي قبل بدء الحرب العراقية الإيرانية، وانخفض إلى 4 دنانير للدولار الواحد عام 1988.

ونتيجة لذلك، أصبح راتب الموظف بلا قيمة، وكانت رواتب بعض الموظفين لا تكفي لشراء طبقة بيض أو سندويتش فلافل، فقد كان بعضهم على سبيل المثال يتقاضون 3 آلاف دينار عراقي شهريا، في حين أن سعر طبقة البيض الواحد بـ3500 دينار، أو يتقاضى 700 دينار شهريا وسعر ساندويتش الفلافل ألف دينار.

قصص مؤلمة

ويقول صديق لي إنه في أحد أيام سنوات الحصار على العراق منتصف تسعينيات القرن الماضي كان واقفا في الشارع ينتظر سيارة أجرة كي يذهب إلى مكان ما، فوقفت سيارة خاصة من طراز "رينو" يبدو أن صاحبها يعمل سائق أجرة، فاقترب من سائقها كي يصف له وجهته، وتفاجأ بأن الشخص الذي كان يقود السيارة أستاذه في الجامعة، وكانت اللحظة صادمة ومرعبة، وانتابه شعور بالخجل والتردد، وتلعثم وهو يتحدث إليه.

لكنه قرر الصعود في سيارة الأجرة هذه على أمل ألا يعرفه أستاذه، لكن أستاذه كان ذكيا جدا، وعرف طالبه بالاسم، وبدأ يتحدث طوال الطريق بلغة مليئة بالمرارة والشكوى، وصديقي يستمع إليه بأدب وإنصات تام من دون أن يقاطعه؛ لأن الأستاذ الجامعي كان شديد الاعتزاز بنفسه ومكانته الاجتماعية.

ويتحدث الصديق نفسه عن حادث مؤلم آخر بطلته جارته التي توفي زوجها وترك لها ولدا صغيرا و4 بنات لم يُكملن دراستهن، باستثناء واحدة فقط كانت تعمل موظفة إدارية في إحدى مستشفيات بغداد حينها وراتبها كان ضئيلا جدا، ربما يكفي لشراء طبقة بيض واحدة، وكان الحمل ثقيلا جدا على هذه العائلة والمعاناة شديدة، فاضطرت لبيع بعض من شبابيك وأبواب البيت الداخلية غير المطلة على الشارع، واستبدلوها ببعض البطانيات القديمة، كي يستفيدوا من ثمن هذه الأبواب والشبابيك لشراء بعض المواد الغذائية.

ومن القصص المؤلمة أيضا رؤية فنان معروف في أحد الأسواق الشعبية في بغداد في وضع لا يحسد عليه وما يملكه من المال لا يكفي لتسديد قيمة الخضروات التي اشتراها من صاحب المحل، أو رؤية شخصيات معروفة من نخبة المجتمع تنتظر دورها في طابور طويل لتسلم طبقة بيض أو كيلو أرز من الأسواق المركزية التعاونية آنذاك.

المشاهد القاسية من هذا النوع لا تعد ولا تحصى، وهو أمر دفع الأمم المتحدة إلى تطبيق ما يعرف بـ"برنامج النفط مقابل الغذاء" من أواسط عام 1996 حتى 14 فبراير/شباط 2001، في محاولة أميركية لإبقاء العراقيين على قيد الحياة وتهدئة المجتمع الدولي والرأي العام العالمي.

وحسب كثير من المحللين، كان هدف الولايات المتحدة من فرض العقوبات على العراق يتمثل في خنق ومحاصرة شعبه لاستنزاف طاقاته البشرية وإضعافه وإفراغه من كوادره ونخبه العلمية.

وفي نهاية المطاف، نجحت تلك السياسة في تحويل العراق الغني إلى بلد فقير، وتسببت في وفاة مليون و720 ألف طفل وهجرة 3 ملايين عراقي من نخبة المجتمع، كما تسببت في انهيار مؤسسات الدولة العراقية، قبل أن يأتي الغزو الأميركي للبلاد عام 2003 ليجهز عليها بالكامل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.