شعار قسم مدونات

محمد التطواني.. المنقذ للتراث المغربي في الموسيقى والطرب الأصيل

رقصة كناوة من الموروثات الفنية المغربية
رقصة كناوة من الموروثات الفنية المغربية (الجزيرة)

تذهب المصادر والمراجع التي اعتنت بشخصية مترجمنا إلى عدم الاتفاق على سنة محددة لولادته ووفاته أيضا، غير أنها تجمع على ميلاده ومماته خلال القرن الثامن عشر، وأن مسقط رأسه مدينة تطوان، شمالي المغرب. وهو من أصول عائلة أندلسية وتونسية، إذ إن جده المباشر السيد الحسين قدم من تونس الخضراء إلى مدينة الحمامة البيضاء زمن حكم السلطان العلوي إسماعيل بن الشريف، فسكن المدينة وأنجب الذرية واعتنى بفن الطرب الأندلسي والموشحات وعلوم الموسيقى المغربية الأندلسية، فصار فيها مبرزا محققا يرجع إليه، ودفن في تطوان سنة 1717 على أرجح الأقوال. وبقيت هذه الأسرة إلى جانب باقي الأسر الأندلسية الأخرى تسهم في "إغناء الميدان الثقافي" بمدينة تطوان، انظر: "تطوان الحاضرة الأندلسية المغربية"، جون لوي مييج، ترجمة مصطفى غطيس.

وفي أحضان بيئة حبلى بالفن الأندلسي الأصيل مولعة بالموشحات والأزجال والسماع، ولد وتربى الصبي محمد بن عبد المالك بن الحسين الحائك التطواني، الذي سيصير ذا شأن في مجال التراث الأندلسي والموسيقى المغربية الأندلسية، وشاعرا لا يشق له غبار، مشهورا على ألسنة المختصين والعامة بالفقيه الحايك التطواني.

تعلق بالقرآن الكريم وبالشعر العربي، وبأزجال الموشحات الأندلسية، وفاق أقرانه في حفظ الدواوين الشعرية، ويشهد على ذلك بنفسه في مقدمة كتابه حيث يقول "وقد كنت زمن الشبيبة مولعا بحفظ الأشعار، أطلبها من الأجلة الأخيار، إلى أن بلغت فيه ما يؤنس الخاطر ويسليه".

انصراف اهتمام السيد التطواني بالتراث العربي والمغربي والأندلسي في الموسيقى والطرب الأصيل متصل بأسباب تاريخية وسياقات يصب فيها السابق باللاحق، ذلك أن القرن الخامس الهجري أسهم في تلاقح الشعبين والثقافتين والعادتين المغربية والأندلسية، وتقاربت المدارس والاتجاهات، وارتحل النوابغ والعلماء والمبدعون بين معبر جبل طارق شمالا وجنوبا، فكان للموسيقى العربية الأندلسية نصيبها من الانتعاش في ظل هذا التلاقح الحضاري، مع اختلاف نظرة الحكام وموقفهم من فن الطرب والموسيقى بين المغرب والأندلس؛ تشدد المغرب وتسامحت الأندلس إزاء الفن ورموزه الكبار، وتأخر بروز المبدعين في المغرب لعقود، نظرا للموقف الحازم الحاسم الذي اتخذ إزاء هذا النوع من الفنون بعد سقوط غرناطة وضياع الأندلس، لأنه عد في نظرنا في طليعة أسباب الانهيار الكبير.

والموسيقى العربية عند دخولها المغرب وانتشارها وتنافس المبدعين في خدمتها وترقيتها إنما كانت في العمق والأصل تعني "شعورا بالعزة الدينية والمجد القومي وحافزا إلى الاستشهاد في ميادين النضال والجهاد، ووسيلة لمجالس الذكر والمديح"، بتعبير الأستاذ محمد بن جلون التويمي، في كتابه "التراث العربي المغربي في الموسيقى"، لا مجرد فن يدعو إلى الاستهتار واللهو والمجون والانحلال الديني وغيرها من الأوصاف. لذا انبرى في كافة العصور خادمين أوفياء لهذا التراث الأصيل الغني الروافد، من أعلام فن الموسيقى العربية المغربية، كأبي بكر بن باجة، وأبي بكر بن طفيل، ما خلا مرحلة الركود والخوف زمن الموحدين، ثم الانتعاش والحرية زمن السعديين، حيث برز علال البطلة مبدع نوبة الاستهلال أو نوبة استهلال الذيل، وقد كان وقتها وزيرا للسلطان القوي محمد الشيخ السعدي رحمه الله، ثم الفقيه حمدون بن الحاج، والسيد حدو بن جلون، وعبد السلام البريهي وإبراهيم التادلي من المتأخرين، وفي هذه الحلقة التاريخية المتصلة نضع مترجمنا البحاثة المجتهد محمد بن الحائك التطواني، الذي استثمر احتضان الملوك العلويين لهذا الفن ورعايتهم له، وعلى رأسهم محمد بن عبد الله العلوي، الذي أعطى أوامره بتكليف الفقيه التطواني بإنجاز مهمة إحياء وصيانة الذاكرة المغربية الأندلسية في علم الآلة والطرب والغناء العربي الأصيل؛ فخلد لنا أهم أعماله على الإطلاق "كناش الحائك التطواني".

تجتمع في شخصية السيد محمد الحائك مسارات الإبداع والنبوغ المغربي منذ عهد السعديين إلى القرن العشرين، لذلك لا غرو أن يأتينا في كتابه بما عجزت عنه الأوائل، حتى "غدا كناشه بمثابة قانون يفصل بين أهل الفن، فإن اختلفوا في شيء رجعوا إليه أو إلى كناشه"، انظر: "تطوان خلال القرن الثامن عشر"، ص: 82. ويذهب الباحث مالك بنونة إلى كون السيد الحائك أنجز "كناشه" الشهير على نسختين، نسخة موجهة لخاصة الخاصة، أي القصر العلوي، وهي التي انتهى كاتبها من تحريرها في الخامس من يونيو/حزيران 1788، ونسخة للعامة والمنشدين وأهل السماع حرره سنة 1800 وهو "الكناش الذي شاع بين أيدي المحترفين للغناء وبين مجموع الهواة لهذا الفن"، حسب بنونة في دراسته "الفن بمدينة تطوان 1727- 1822″، ص:84.

وقد عاصر الشيخ الحائك التطواني رموزا وأعلاما بارعة في مجالات ذات تقاطع مع كان يشتغل عليه ويهتم به، وبفضلهم تطورت الصنعة المغربية في مجال الطرب الأندلسي، نذكر منهم الحاج أحمد العسراوي، والعامل عبد الكريم بن عبد السلام بن زاكور، والأديب المنشد المجيد المهدي بن الطاهر الفاسي، إلا أن الحائك تميز عنهم بصيانة الذاكرة التاريخية للموسيقى المغربية الأندلسية في كتاب جامع مانع.

يحلو لصاحب المؤلف السيد الحائك التطواني أن يطلق على هذا الفن اسم "صناعة الطرب"، ويؤكد أصله العربي، ويرى ابن جلون التويمي في مقدمة تحقيقه لـ"كناش" الحايك، أن أصل "الموسيقى المغربية عربي صرف" كما أكد الحائك، أما "تسميتها بالموسيقى الأندلسية، فلم نعرفها إلا في عهد الاستعمار الذي أطلق عليها هذا الاسم تشويها لعروبتها وتنقيصا من مقدرتنا العلمية والفنية، والواقع أنها كانت تسمى عندنا بالطرب أو الآلة، تمييزا لها عن موسيقى السماع المستعملة بالأصوات دون الآلات"، انظر: "كناش الحايك التطواني؛ دراسة وتنسيق وتصحيح"، ص: 2، من دون أن ينكر للأندلس فضلها العظيم في خدمة هذا الفن وازدهاره، واشتهار علي بن نافع الموصلي الملقب زرياب (789-857م) واتجاهه اللامع وطريقته في الغناء القائمة على أصول النوبة والتقائية الإيقاع الغنائي مع الإيقاع الشعري.

وجعل الحائك كتابه تبيانا لشارد ووارد الأمور المتعلقة بالموسيقى العربية والطرب المغربي والمقامات الغنائية والأشعار الأندلسية والمغربية، من خلال 3 أبواب، الباب الأول منه في جواز السماع واستحكامه، والثاني في منافعه وأحكامه، والثالث في أصله وأحكامه، آتيا بـ366 طبعا موسيقيا "ليكون أحسن بضاعة"، كما جاء في خاتمة الكتاب.

ومن النوبات الموسيقية التي ذكرها الكاتب ونستحضر معطياته القيمة عنها هنا، أذكر:

  • النوبة الأولى "في رمل الماية والحسين وحمدان ورمل الذيل"، ويعني مصطلح "النوبة" عند أهل الاختصاص (الدور الغنائي) أو (الوصلة الغنائية)، وهي تتألف من إنشاد وصوت وتوشيح وزجل. ويذكر الفقيه التطواني أن مبدع هذا الرمل هو جابر بن مهراس الفارسي، وهذا الرمل يقابل في السلم الموسيقي العالمي حاليا المقام الثاني المسمى (ري). يقول الأستاذ محمد الفاسي "إن نغمة الرمل تعبر عن العظمة والجلال والعزة والسمو وكل صفات الكمال، ولهذا فكر أحد العلماء من رجال القرن الثاني عشر الهجري وهو أبو العباس أحمد بن محمد بن عبد القادر الفاسي أن يخصص أشعار هذه النوبة لتمجيد النبي صلى الله عليه وسلم". أما طبع الماية، فحسب الحايك التطواني فإن المستخرج له ومبدعه هو حسين بن أمية، وهو طبع يستعمل في "جميع الأوقات، ونغمته ألذ النغمات، وألحانه أطيب الألحان، وله مزية على سائر الطبوع"، انظر: "كناش الحائك"، ص: 29، وهو يوافق حسب المختصين المقام السادس في السلم الموسيقي العالمي (لا). أما طبع حمدان فالمبدع له رجل من سوس بالمغرب الأقصى يدعى سنان بن عتاد، ويقابل المقام الرابع (فا) في السلم الموسيقي العالمي.
  • والنوبة الثانية سماها الحائك "الأصبهان والزوركند"، وطبع الأصبهان فرع من الزيدان، ومبدعه جابر بن الأصعد الأصبهاني، ونقل عن الفيلسوف الكبير الفارابي (874-950م) قوله في حق هذا الطبع "وهو نغم حلو رقيق يلين القلب"، ويقابل المقام الثاني في السلم الموسيقي العالمي (ري). أما الزوركند فابن بيئة أندلسية أيضا، أبدعه عبد الرزاق القرطبي.
  • النوبة الثالثة، في "طبع الماية"، وهو أحد أصول النغم حسب عبارة الحائك، استخرجه أمية بن المنتقد من بني مليك، دونما تحديد لتاريخ إبداعه. وهذا الطبع "يعبر عن الفراق والنهاية والبعد"، حسب الأستاذ ابن جلون التويمي، في "التراث العربي"، مرجع سابق، ص، 33.
  • النوبة الرابعة في "رصد الذيل" استنبطه محمد بن الحارث، من طبيعته أن يجلب "الهدوء والاستسلام والصبر والنوم"، حتى قال فيه المغاربة "إذا طال عليك الليل فعليك برصد الذيل". وهو طبع يعبر عن الذكرى والحماسة.
  • النوبة الخامسة في "طبع الاستهلال وعراق العرب"، وهو في نظر الحائك التطواني طبع خارج عن الشجرة، أي من الطوابع المجهولة، ويرجع إبداعه إلى الرجل الموهوب من مطالع عصر السعديين علال البطلة (ت 1554)، في حين استخرج ابن تميم العراقي طبع عراق العرب وهو طبع "فخيم النغمات والألحان، وله تأثيرات في نفوس المستمعين"، حسب عبارة ابن جلون التويمي في مرجعه الآنف الذكر.
  • النوبة السادسة في "الرصد والحصار والزيدان والمزموم"، والنوبة السابعة في "غريبة الحسين والمحررة والصيكة"، والنوبة الثامنة في "الحجاز الكبير والمشرقي الصغير ومجانب الذيل"، والنوبة التاسعة في "طبع الحجاز المشرقي"، والنوبة العاشرة في "طبع عراق العجم"، والنوبة الحادية عشر في "طبع العشاق والذيل ورمل الذيل".

ونظرا للفائدة العظيمة لهذا المصنف البديع، أمر السلطان محمد بن عبد الرحمن بتكوين هيئة علمية مختصة أسند رئاستها إلى وزيره محمد بن العربي الجامعي للحسم في الخلافات التي انتشرت بين أهل الموسيقى الأندلسية بالمغرب، والنظر في مسألة الخلاف في أصل الطبوع والنوبات ومكانة الآلات؛ فتوجهت عناية اللجنة السلطانية إلى إعادة طبع واختصار كناش الفقيه الحائك التطواني باعتباره مرجعا هاما وحاسما في الموضوع. وكثرت بعد ذلك المختصرات، فصدرت في مكناس نسخة مختصرة بعناية إبراهيم التادلي المكناسي، ونسخة في طنجة بقلم عبد السلام الرقيوق سنة 1907، والتي لم تر النور مطبوعة إلا في أواخر سنة 1981!

ولفائدته وفرادته، اعتنى به واستفاد منه كثيرا الفنان المداح الألمعي عبد الله بن منصور المتوفى سنة 2010، وهو أحد أعمدة فن المديح والسماع بالمغرب الأقصى ورائد من رواد الموسيقى الأندلسية.

واعتنى به كذلك السيد محمد بوعسل وقام بطبعه سنة 1931، كما أعيد نشر كتاب الحائك التطواني سنة 1982 بإشراف الحاج عبد الكريم الرايس، واهتمت به أكاديمية المملكة المغربية وأسندت إلى الباحث مالك بنونة تحقيقه ونشره وذلك سنة 1993، وقد كان أول طبعه عام 1789 بطلب من السلطان العلوي محمد بن عبد الله.

وتوزعت نسخ كثيرة منه عبر أرجاء التراب الوطني، فكانت نسخة منه محفوظة بالخزانة الداودية في تطوان، وهي النسخة التي أكد المختصون والباحثون بأنها كتبت بخط يد المؤلف بطلب من الأمير مولاي عبد السلام بن محمد بن عبد الله العلوي، التي وافق انتهاؤه من كتابتها في رمضان من سنة 1788. كما توجد نسخة منه مخطوطة في مكتبة جامعة لايدن بهولندا.

ولهذا كله عد كناش الحائك التطواني "أحد المصادر التراثية الفنية المهمة، بما تضمنه من نماذج غنائية دنيوية وصوفية (..) وأشمل مجموع يجمع بين دفته أمثلة للغناء العربي الأصيل الذي لم يتأثر من قريب أو بعيد بالمدرسة العثمانية في الغناء (..) وحافظ لنا على نماذج من الغناء العربي على عهد مكة والمدينة وبغداد والأندلس"، بتعبير الباحث مالك بنونة، في دراسته "الفن بمدينة تطوان.." ص: 85، وأرخ لنا لنماذج غنائية عابرة للقرون وللدول، من عهد المرابطين والمرينيين والسعديين والعلويين.

ولشهرته وتميزه في الحفاظ على التراث الغنائي العربي والمغربي وأشعار الموسيقى المغربية، تلقفته الأسر الغنية والميسورة في فاس وتطوان وطنجة بالعناية الموصولة. والتفتت إليه الزوايا وصارت تعلمه للمريدين والأتباع والمحبين والمادحين، ولعل ما ذكره الأديب والمثقف التهامي الوزاني عن الزاوية الحراقية وشيخها محمد الحراق ودوره الهام في إدخال الآلات وتطوير الزجل والتغني بالنصوص العربية والأندلسية في الزاوية لمما يؤكد هذا الاتجاه، فلينظر إليه في رواية "الزاوية".

لقد أسهم الفقيه الحائك "في حفظ هذا التراث من الضياع" بحد تعبير العلامة محمد الفاسي في "معلمة الملحون"، ص: 5، ومنوط اليوم بعلماء هذا الفن وبالباحثين فيه والمولعين به، وبإعلامنا وإعلاميينا ومدارسنا ومؤسساتنا الثقافية الاهتمام بالتراث المغربي الضخم ضمن هذا المجال، وتنميته وتعزيز حضوره، وبث معانيه الرفيعة في صفوف الناشئة، لأنه "جزء من التراث المغربي الدال على هويتنا ووجداننا وآمالنا"، بعبارة محمد الفاسي. ولأن هذا الفن وهذا العلم "يصبو إليه كل لبيب، وله في كل جارحة سارية ودبيب، ويجري مجرى الدم في الإنسان الأريب" بعبارة ابن الحائك التطواني.

ولله في الأرواح عند ارتياحها

إلى اللحن سر للورى غير مظهر

مصادر ومراجع

  • (التويمي) إدريس بن جلون: "التراث العربي المغربي في الموسيقى؛ مستعملات نوبات الطرب الأندلسي المغربي، شعر، توشيح، زجل، براول، دراسة وتنسيق وتصحيح كناش الحايك"، مطبعة الرايس، الدار البيضاء، طبعة بدون تاريخ.
  • (الفاسي) محمد: "معلمة الملحون؛ مائة قصيدة وقصيدة في مائة غانية وغانية"، منشورات أكاديمية المملكة المغربية، ضمن سلسلة التراث، الطبعة الأولى 1997، نسخة إلكترونية.
  • (الوزاني) التهامي: "الزاوية"، مراجعة الدكتور عبد العزيز السعود، منشورات باب الحكمة بتطوان، الطبعة الأولى 2020، نسخة ورقية.
  • (مييج) جون لوي ومحمد بن عبود ونادية الرزيني: "تطوان الحاضرة الأندلسية المغربية"، ترجمة الدكتور مصطفى غطيس، الطبعة الأولى 2002، منشورات جمعية تطاون أسمير، نسخة إلكترونية.
  • أعمال ندوة: "تطوان خلال القرن الثامن عشر 1727-1822″، أكتوبر/تشرين الأول 1993، عن مجموعة البحث في التاريخ المغربي والأندلسي ومدرسة فهد العليا للترجمة بطنجة، مطبعة الهداية – تطوان، الطبعة الأولى 1994.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.