شعار قسم مدونات

تأملات في نهاية الأربعينيات

هناك فجوة كبيرة بين الأجيال في تداول الأمثال ودلالاتها في المجتمع الواحد- (بيكسلز)
الذكاء والإبداع متمايزان فقد نجد شخصًا مبتكرًا لكنه لا يتمتع بمستوى رفيع من الذكاء (بيكسلز)

تنبع أهمية علم المنطق في أنه يمنح الإنسان القدرة على التفكير السليم من خلال البحث والنقد في مختلف مجالات الحياة، ولم ترق لفرانسيس بيكون دراسة المنطق القديم، ونحا منحى آخر في كتابه "الأورجانون الجديد"، ورأى أن الإنسان قد عُوقب من طرف العناية الإلهية بحرمانه من معرفة الطبيعة ومن السيادة عليها لارتكابه الخطيئة؛ فأطلق على هذه الآفات المعرفية لفظَ الأوهام التي تتعلق بالطبيعة البشرية، وبالطبيعة الفردية لكل شخص، واختصر بيكون أوهام العقل في 4 أمور: (أوهام القبيلة)، و(خيالات الكهف)، و(خداع السوق)، و(ألاعيب المسرح).

وعني بأوهام القبيلة الأخطاء التي تكمن في الطبيعة البشرية بوجه عام؛ كالحواس البشرية، فهي معرضة للخطأ، وعني بالثاني الأوهام الفردية التي يقع فيها كلُّ شخص نتيجة تكوينه الخاص وتربيته وعاداته، وتمحور الثالث حول عملية تبادل الأفكار، وتداولها بين الناس يكون -أساسًا- عن طريق اللغة، فيتوهم الشخص أن عقله هو الذي يتحكم في الألفاظ، والصحيح عكس ذلك؛ فالألفاظ هي التي تتحكّم في العقل وتؤثر فيه. والأصل في الألفاظ عامي وشعبي وليس علميًا، فهي موضوعة أصلًا لتلائم الذهن العامي، لذا يصعب على الذهن العلمي أن يعبر عن أفكاره بدقة، إذ لا يجد من الكلمات والألفاظ ما يناسبه، ومن هنا تُلحظ كثرة الخلافات بين الأشخاص في المسائل العلمية نتيجة الألفاظ. وأما الرابع، فقصد به النظريات والمذاهب التي تفرض نفسها على عقولنا بمنطق مزيف، أو نتيجة تقديرنا المبالغ لآراء السابقين.

وكان هدف بيكون يصبو إلى تصحيح المسار العلميّ. ولكن ماذا على الصعيد الاجتماعي والأسري؟ كيف يكرر الشخص الأخطاء نفسها؟ كأن الأمر أشبه بمسلسل ليست له نهاية، وشغلني هذا التساؤل وألحّ عليّ أكثر من 10 سنوات تقريبًا، ولما بلغت من العمر نهاية الأربعينيات، توصلت إلى أن الأخطاء تكمن في 4 أمور، هي: استصحاب الحال، واللزوم الوهمي، والاستذكاء، والعبث في الرتب والمقامات للأشخاص وتنافس الآخرين:

فالأول: استصحاب الحال، والاستِصْحَابُ في اللغة: هو استفعال من الصحبة، والصحبة هي المعاشرة والملازمة، وكل شيء لازم شيئًا فقد استصحبه. وهنا تكمن أهمية الأمر في أن الشخص يصاحب أفكاره وهوايته ومواهبه أينما ارتحل، ولكنه يغفل عن مراعاة المكان والزمان، ولهذا كنا نرى قديمًا في الأعراس الشخص المتدين يقف وسط الحضور ليلقي خطبة وعظ متضمنةً آياتٍ وأحاديث وقصصًا عن التوبة، وحيثما يمّم وجهه يفعل فعلته. وفي الجانب الآخر يجلس الأكاديمي في المجالس العامة، يتحدث بما حضّر للمحاضرات الجامعية، ولا تختلف الحال مع أصحاب المناصب العليا إذا جلسوا مع أصحابهم أو أسرهم، فيتحدثون بما قاموا به من الأعمال الوظيفية، وكأن مخزون عقلهم لا يوجد فيه إلا هذا النمط من الأحاديث. والفظاعة الكبرى حين يستصحب الشخص سهراته الخاصة وألاعيب رفقة السوء ويسقطها على أسرته، ومن هنا يسلك مسلك الشكوك التي تمزّق الأسرة، وهو لا يشعر.

ويثور التساؤل: كيف نشأ عنده الاستصحاب؟ ويمكن أن يجاب عنه: لعل مرد الأمر في ذلك تعود ذهنه وتطبّع سلوكه بنمط واحد أدى به إلى ما هو عليه، فيستصحب هوايته ومواهبه أينما كان من دون مراعاة الأحوال والزمان؛ فالوعظ له هيبته ومكان ومقام يخصانه، والأعراس لها خصوصية مختلفة عن المناسبات الأخرى، وكذلك الأحاديث العلمية لها رمزيتها، فإذا استُعملت في الأماكن غير المخصصة لها، أو مع الأشخاص غير المؤهلين لها تفقد أهميتها والغاية منها، وقسْ على كل ما ذكر جلوسك في سهراتك الخاصة، وبصحبة أهلها، تختلف عن سهراتك مع أسرتك، وأخوتك، وأصدقائك، فذاك له طابع يغلبه، إذ فيه تنازل عن مبادئك، وأخلاقك في أغلب الأحوال، بعكس الأمر مع الأهل والأصدقاء، فتغلب المروءة والدين، وشتان بين التمسك بالدين، والتفريط به.

إن الذين أجرموا كانوا في الدنيا يستهزئون بالمؤمنين، وهو ما ذمّه القرآن من فعل المنافقين واستصحابهم السخرية والتغامز بالمؤمنين، حيث إذا مروا بهم يتغامزون سخرية منهم، وإذا رجعوا إلى أهلهم وذويهم تفكهوا معهم بالسخرية من المؤمنين، وهو ما عبّر عنه قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ (31)).

الأمر الثاني: وهو اللزوم الوهمي، والمقصود باللزوم عند المناطقة امتناع الانفكاك بين الشيئَين، كلزوم الزوجية للاثنين، ويطلق عليه الملازمة العقلية وهو المعتد عندهم، بخلاف علماء أصول الفقه فقد توسعوا في الملازمة فأدرجوا تحتها -بالإضافة إلى الملازمة العقلية- الملازمة الشرعية، والملازمة العرفية، فمثلوا للشرعية بالوجوب والتحريم للمكلّف، وللعرفية بدلالة السحب على المطر. ولهذا أجد من المهم إضافة نوع آخر من الملازمة وهي الملازمة الوهمية، وتحصل عندما يربط الشخص بين الأمرَين ويجعلهما من باب التلازم، ثم يتبين بعد ذلك أنه ليس بينهما تلازم، وهذا النوع يكثر في النقاشات سواء بين العامة أو الخاصة، فعندما يلزمنا شخص أن نبين العلاقة بين شيئَين على حسب اعتقاده يكون الجواب العلمي "بل جهة منفكة"، وبعبارة عامية "وشدخل".

لتوضيح الأمر أكثر، عندما يُسأل عن حكم صلاة الجماعة؟ غالبًا نسمع الجواب أن صلاة الجماعة واجبة في المسجد. لو أردنا أن نحلل الجملة نجدها تحمل شقَّين؛ الأول إقامة صلاة الجماعة، والثاني محل إقامتها؛ إذن لدينا مسألتان: الأولى تُعنون بمسألة حكم صلاة الجماعة، والأخرى حكم صلاة الجماعة في المسجد. فالأولى واجبة على الأعيان، والثانية سنة في المسجد كما هو المعتمد عند الفقهاء الحنابلة. إذن تبين موضع ربط المسجد بصلاة الجماعة عند غالبية الوعاظ والمشايخ غير المتأصلين، فيجعلون ذلك من باب الملازمة الشرعية بحيث يترتب عليها ثواب وعقاب. وفي الأصل ليس بينهما تلازم، ومن هنا يقع الخطأ، ومنشؤُه هو اللزوم الوهمي.

وأتذكر أني كنت جالسًا مع أصدقائي يومًا ما، وصدر قرار بتعيين مدير جديد، فسألتهم: ما رأيكم في الشخص المعين؟ فانهالوا عليه بالمديح، فقال واحدٌ منهم: إنه يصلي صلاة الفجر في المسجد، فقلت له: ما علاقة الصلاة بمنصبه؟ فغضبوا عليّ أشد الغضب، فبينت لهم أن المحافظة على الصلاة شيء، وفقه الإدارة شيء آخر، والذي يهمني هنا عمله في الإدارة، والعدالة المهنية، فقد يكون ملتزمًا بالصلاة والعبادات وهو ظالم في عمله، والعكس بالعكس، وهو ما أشار إليه قوله تعالى: (وَمِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ)، وكذلك مقولة النبي صلى الله عليه وسلّم: "صدقك وهو كذوب". من قصة أبي هريرة رضي الله عنه مع الشيطان الذي كان يحاول السرقة من زكاة رمضان، فأخبره بآية الكرسي، فالشيطان هو أصل الشرور ومنبعها، ومع ذلك لم يمتنع رسول الله عليه الصلاة والسلام من إقرار مقولة الشيطان وبيان صدقه في هذا الموقف رغم المعدن الخبيث.

والأمر الثالث: الاستذكاء، وهذا الأمر استغرق مني وقتًا طويلًا من التأمل والتفكير والاستقراء، وكنت أسأل نفسي دائمًا: كيف يخطئ الشخص الذكي، وربما يكرر الأخطاء نفسها في المواقف المشابهة؟ وكيف يخطئ صاحب الخبرة الطويلة ويرتكب الحماقات؟ وكنت أتابع الأشخاص وأدرسهم من كثب وأتساءل: ما منشأ الأخطاء؟ حتى توصلت إلى ما أسميته "الاستذكاء"، ولكن قبل بيان المقصد لا بد من الإشارة إلى مفهوم الذكاء، وأنواعه لكي يتضح المقصد.

يرى أفلاطون أن الذكاء قدرة فطرية تتجلى في قدرة الأفراد على التعلم واكتساب الخبرات والتكيف مع الأوضاع المختلفة. وأما أرسطو فيرى أن الأفراد يختلفون في خصائصهم -بما فيها الذكاء- تبعًا لاختلاف البيئات التي ينشؤون فيها ويتفاعلون معها.

ولعل عدم الاتفاق حول مفهوم الذكاء في علم النفس، يرجع إلى اختلاف وجهات النظر، حيث ورد تساؤل مفاده: هل الذكاء يتضمن قدرة واحدة عامة تنتظم كافة الأنشطة، أم يشتمل على مجموعة قدرات منفصلة؟ وهل الذكاء سمة يتصف بها الفرد ويُستدل عليها من سلوكياته وتصرفاته في المواقف المختلفة، أم هي كينونة تُولد مع الأفراد وتتطور عبر مراحل النمو؟ ونحو ذلك من التساؤلات التي صعبت على دارسيها وضع تعريف محدد وواضح لمفهوم الذكاء. ولكن خير تعريف له هو تعريفه بالرسم، أي بأنواعه، ومن أهمها:

الذكاء الاجتماعي، ويتمثل في الأشخاص الذين يتميزون بالقدرة على فهم الآخرين والاستجابة والتفاعل بشكل لائق ولبق مع الأفراد، ويميلون إلى مخالطة الناس، فهم اجتماعيون بدرجة كبيرة، ولا يُفضلون العزلة، ويحبون أن يشاركوا الناس أنشطتهم المختلفة، وأن يفهموا أمزجة الآخرين ومشاعرهم ودوافعهم.

الذكاء المنطقي أو الرياضي، وأصحاب هذا النوع من الذكاء يفضلون القيم، والمفاهيم المجردة، فيحبون أن يُعيدوا كل شيء إلى أصله في فهم وتحليل الأمور، وقد يستخدم بعضهم المنطق في معرفة أسباب الظواهر.

الذكاء الموسيقي، وهم أصحاب الحس العالي في الموسيقى والأغاني، ولديهم القدرة على تمييز الأصوات بسهولة.

الذكاء الشخصي، ويتمثل في القدرة على التعرف على المشاعر الذاتية وتحديد إمكانات الذات ونقاط الضعف والقوة فيها.

وفي سبيل إتمام وتوضيح الفكرة، ذهب بعض علماء النفس إلى أن الذكاء والإبداع متمايزان، فقد نجد شخصًا مبتكرًا، ولكنه لا يتمتع بمستوى رفيع من الذكاء، وأيضًا قد نجد شخصًا ذكيًا ولكنه ليس مبدعًا، وبناءً على ذلك تكون العلاقة بينهما لها عموم وخصوص وجهي، فقد يجتمعان في شخص واحد وقد يفترقان.

كيف يخطئ الذكي؟

الذي تبين لي بعد التأمل والتدقيق في تصرفات الأذكياء أن الذكي قد يخطئ إذا أراد أن يثبت لغيره أنه أذكى منه، وأنه يفهم الأمور على أكمل وجه، ويحيط بخفاياها وظواهرها، فيذكرنا بشخصية "رامبو" الذي يحارب الأشخاص والجيش وحده، ويقفز من السماء، ثم ينزل إلى الأرض، ويركب الدبابة ويسير بها إلى وسط المعركة، ثم يقفز منها قبل انفجارها؛ هكذا هي حال المستذكي، فهو في حقيقة الأمر يكون ذكيًا في أمر ما، ولكنه عندما يدخل في ميدان مختلف غير ميدانه الذي كان رائدًا فيه، ويتعامل معه بالنهج والأدوات التي كان يستخدمها في ميدانه؛ يقع في الخطأ الفاحش ويتمرغ في وحل الفشل الذريع.

وربما يكرر الخطأ نفسه بأسلوب مختلف، ولتوضيح ذلك نسوق هذا المثال: شخص يتمتع بذكاء منطقي، ولديه القدرة على تحليل الأمور الدقيقة، لكنه عندما يجلس في المجالس يخطئ كثيرًا، وليست لديه القدرة أصلًا على تكوين الصداقات، وإذا صُوّب خطؤه أو نُصح غضب أشد الغضب، وارتفع صوته: كيف تنصحني وأنت أقل مني ذكاءً؟ ألست أنا أفهم وأعلم وأكثر دراية منك؟

وهنا مثار التساؤل: ما منشأ خطئه؟ وهو ما أطلقت عليه "الاستذكاء"، إذ إنه يتعامل مع القضايا الجديدة بأدوات غير مناسبة. وأعني أنه تنقصه هنا أدوات الذكاء الاجتماعي التي تختلف عن أدوات الذكاء المنطقي؛ فالذكاء الاجتماعي تغلبه المشاعر والتنازل عن هفوات الأصدقاء، بخلاف الذكاء المنطقي الذي تغلبه الصرامة والجدية وعدم التنازل عن الآراء.

وهنا مفترق الذكاء؛ فقد يكون الإنسان ذكيًا في شيء، وعاديًا في شيء آخر، ولو استذكى أخطأ، أي لو تعامل مع الأمر الجديد من غير أن يستفيد من خبرة الآخرين، أو تجاربهم، فإذا تعامل مع الأمر الذي أقدم عليه من منطلق أنه ذكيّ، فسيقع في الخطأ لا محالة، ولهذا قد تجد أشخاصًا أذكياء ولكنهم لا يستفيدون من قراءة الكتب والمجلات العلمية إلا قليلًا، لأن الشخص يستصحب ذكاءه الذي اعتاد عليه في المعرفة، فالمعرفة لها طابعها الخاص من حيث المنهج، والأدوات، ولو بقي سنين وهو يقرأ فلن يتقدم قيدَ أنملة، بل سيخرج مشوشًا في أفكاره، وملخص الأمر أن الاستذكاء يوقع في الخطأ.

الأمر الرابع والأخير: العبث في الرتب والمقامات للأشخاص، ومعرفة ذلك وتحديده له أهمية كبيرة، خاصة في النواحي الشرعية والقانونية والاجتماعية والنفسية، وقد كان لها دورها في تحديد الميراث والولاية على كافة الأمور، سواء المال والنفقات والنفس، ويتحدد بها مدى قرب الأفراد من بعضهم البعض وتنظيم حياتهم الاجتماعية بناءً على ذلك.

فالدرجة الأولى: الأب، والأم، والأبناء، والجد. والدرجة الثانية: الجدة، والأخ، والأخت، وابن الابن. والدرجة الثالثة: الأعمام، والعمات، والأخوال، والخالات، وأبناء الأخ، وأبناء الأخت. والدرجة الرابعة: أبناء العم، وأبناء العمة، وأبناء الأخوال، وأبناء الخالات.

إذن يتبين لنا من تحديد درجة الرتب أن لها أهمية كبيرة في حياتنا اليومية، وعلى هذا فإن صداقة الأصدقاء تختلف عن صداقة الأبناء، وقسْ على ذلك صداقة الأعمام والأخوال، ولهذا فإن صداقة الأبناء هي أساسًا تربية ورعاية لهم، ولكن تحت مسمى "صداقة"، بخلاف صحبة الأصدقاء الأوفياء، فهي رحلة اكتشاف المحيطات الاجتماعية، ومغامرة بالذات، فقد يجرك صديقك إلى أصدقاء جدد، فيفتح لك نوافذ من العلاقات خارج محيطك، وقد تكتشف أعز صديق لك يخونك، في نهاية المطاف، فيكون ذلك بالنسبة لك تدريبًا على المفاجآت، ولهذا كانت الصداقات أشبه بالمغامرة.

أما صداقة الأبناء أو العكس الآباء أو الأعمام من حيث كونهم بمنزلة الآباء فيختلف الأمر. فهنا الصداقة هي أساسًا صلة للأرحام ومبنية على البر والتقوى، فلا يجوز بينهم سوء الأدب، ولا يُرفع الصوت عليهم، ولا تتصدر منازلهم في المجالس، ولهذا أتعجب كل العجب عندما أصادف، مثلًا في بعض الأماكن، أن يكون الأب مع ابنه أو العم مع ابن أخيه يتخطّون الأعراف مع بعضهم تحت ستار كونهم أصدقاء، ماذا بقي لمنزلة الأب أو العم من الاحترام، هل يعقل أن يتشاجر العم وابن أخيه في سهرة خاصة لسبب ما؟! أليس العم بمنزلة الأب، وابن أخيه بمنزلة ابنه، أليست منازلهم مختلفة ولكلٍّ منزلة تخصه من حيث الدرجة، فاختلاط الرتب والمقامات يدل على العبث، مما يترتب عليه من آثار سلبية، كأن تصاحب "السائق"، وكلما تسافر تصحبه معك في كل مكان، وتخبره بأسرارك الخاصة، وتستشيره في حلّ مشاكلك، وإذا زرت المجالس تخبرهم منزلته عندك، طبعًا تجعل من نفسك أضحوكة عند الآخرين، وشفقة عليك، ولسان حالهم يقول: مسكين مسكين! وكذا حال صداقتك مع صلة أرحامك تختلف عن صداقة ربعك، ولكلٍّ له منزلته ومقامه.

ومن المناسب أن أذكر مسألة مرتبطة بمسألتنا، وهي صداقة أبنائنا، وأنا على الصعيد الشخصي أرفضها رفضًا باتًا، لأني لاحظت الصفات والهوايات تنتقل إلى أبنائنا بطريقة لا فيزيائية، مثلًا الأم لا تحب أن تأكل اللحم، فتجد إحدى بناتها لا تأكل اللحم، والأخرى تأكل، ولما تتعمق في الأمر تجد التي لا تأكل اللحم هي المقربة من أمّها التي تصحبها في أكثر المناسبات، والأخرى التي تأكل تقريبًا لا تصحبها أمها في أغلب الأوقات، وأهم خطورة مترتبة على ذلك عدم وجود أصدقاء للأبناء بسبب صداقة الأب لابنه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.