شعار قسم مدونات

الحفر في الذاكرة

أحد السجون التابعة للنظام في سوريا
أحد السجون التابعة للنظام في سوريا (الجزيرة)

لطالما ضمت تجاويفها صور الوجوه التي التقاها وسجلت أحاديث الأحباب والأصحاب وحفظت خرائط الأماكن والدروب.

على أطرافها انتشرت تفاصيل جلسات هانئة كانت تجمعه مع أسرته بعد كدح نهار طويل، وفي ثناياها كان قد فاح عبق الياسمين الذي تسلق جدار منزله، وفي ركن من أركانها تردد زمنا صوت المؤذن في مسجد الحي ينادي: حي على الصلاة، حي على الفلاح.

ومن هذا وذاك كانت ذاكرته تستقبل كل يوم أشياء جديدة، ليتعانق القديم مع الجديد على مساحة كان لها أن تتمدد ما تمدد العمر.

مثل غيره من الناس ذاق في حياته الراحة والتعب، وعاش ساعات مع السعادة وأخرى مع الحزن، إنما لم ينتظر أن يعيش قبل الموت شيئا يشبه انعطافة الحياة إلى الموت، لكن هذا ما كان، وابتدأت فصوله مع صوت ارتطام الحديد عندما أوصدوا خلفه باب الزنزانة.

وبعنف صارخ صدمته لحظة دخوله تلك الزنزانة ملامح تاريخ من الآلام تحكيه بلا كلمات أجساد بشرية عارية مكومة فوق أرض باردة عارية، فأدرك أن ذلك التاريخ سيعيد نفسه معه.

أصابه ذهول عاصف سرى في جسده واستولى على تفكيره، ولكنه أراد أن يتماسك قليلا فاستحضر في ذهنه هويته وحقيقته وبعضا من حوادث الأمس.

علم أن المدى الذي كان يتجول فيه قد تقلص ليغدو محصورا بين جدران زنزانة في قبو عميق تحت الأرض، وربما خطر له لوهلة أن الجدران التي حاصرت جسده لن تحاصر خياله، وأنه يستطيع أن يطلقه ليسترجع الصور والمشاهد التي عاشها، ولكن أول سوط انهال على جسده كان إعلان بدء بالعمل على خنق الخيال ومحو الأماكن التي عرفها من ذاكرته.

ومن يومها غاب عن أيامه الليل والنهار، وفقد الشعور بتعاقبهما، ولم يعد الزمان يقاس بالساعات، وإنما بعدد السياط وجلسات التعذيب.

كم كانت مديدة!

تلك الأوقات التي تركه فيها السجان معلقا بحبل يشده من معصميه إلى سقف لا يرفعه فوق أرض لا تحمله مثل ذبيحة هيأها الجزار للسلخ، وفارق ما بينهما أن جسدا غادرته الحياة فغادره الألم، وآخر بقيت فيه بعض الحياة ليحمل كل الألم.

وكان عليه وهو على هذه الحال أن يتلقى لسعات سوط الجلاد كأنما يحفر في الذاكرة أخاديد جديدة تحتوي تلك العذابات.

لم يعد غريبا في عالمه الجديد أن الجسد الملقى على الأرض لا يستطيع حراكا ولا يقوى على الكلام قد يتحول وقد صعقه السجان بالكهرباء إلى كائن ينتفض بقوة هائلة، وتشق صرخاته صمت المكان، ليضحك الجلاد بعدها مستشعرا نشوة النصر، وإن تركه إلى حين فليعود بعد ذلك إليه بسوط يحفر في الجسد ويحفر في الذاكرة.

وإلى أخاديد الذاكرة صارت تأوي صور المعذبين الذين رآهم قريبين منه يلفظون أنفاسهم الأخيرة بعد أن تعبوا من الحياة وتعبت منهم الحياة، وموت الإنسان هناك لم يكن يعني الكثير، كل ما في الأمر أن السجان سيأتي يوما ليأمر بسحب الجثة إلى حيث يتم التخلص من أثرها، ويشيعها بقهقهة يرقص على وقعها ألف شيطان.

كم بدا له أن الموت الذي سبقه إليه آخرون كانوا في زنزانته قد يكون مصيرا يريحه ويسعد بالسكون إليه، فألم الموت الذي تجرعوه ومضوا ما زال يتجرعه على الدوام.

يتجرعه مع كل ظفر ينتزعونه من جسده ومع كل رشقة ماء مغلي يسلقون بها ذاك الجسد، يتجرعه مع كل سيل للشتائم يصبونه عليه بألفاظ تستحي منها البهائم لو فقهت معانيها، يتجرعه مع كل سوط ينهال عليه ليواصل الحفر في جسده وليتواصل الحفر في ذاكرته.

ويتطاول العذاب ويتعاظم القهر، ويطغى الألم ويُقتل الأمل.

ويستمر الحفر ليكنس ما تبقى في الذاكرة من صور الأهل والمنازل والدروب، ويوسع المكان لصور القهر والعذاب والموت.

ولما بلغ الحفر أقصاه تلاشى كل شيء ولم تعد هناك ذاكرة، لقد نسي حقيقته وماضيه، ونسي أنه كان بالأمس إنسانا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.