شعار قسم مدونات

الجزيرة وبيرقدار.. المسلمون في سماء معارك الأوروبيين

كومبو يجمع بين أرنولد توينبي (يسار) ومالك بن نبي (يمين) (مواقع التواصل الإجتماعي)

يجمع الخبراء الإستراتيجيون -بل وطيف عريض من المتابعين العاديين- على أن الحرب بين روسيا وأوكرانيا ستترك تأثيرات كبيرة على مستقبل العالم بسبب مكانة الأطراف المشاركة فيها، بصورة مباشرة أو شبه مباشرة، في النظام العالمي القائم حاليا.

غير أن كثيرا من هؤلاء الإستراتيجيين لا يستشرف هذه التأثيرات بحيادية، وإنما يصوغ توقعاته للمستقبل بما يتلاءم مع ما يريده؛ فتجري معارك استشراف المستقبل في الوقت الذي تجري فيه معارك حروب الحاضر.

المصائب والفوائد

وفي هذا الصدد يظهر للمتابع لهذه الاستشرافات إغفال تام للمكاسب الإستراتيجية المحتملة للمسلمين من هذه الحرب، رغم وجود مؤشرات ظاهرة عليه، منها قوة حضور "المنتجات الحضارية" التي أبدعتها العقول المسلمة في هذه الحرب؛ وأبرز مثال عليها مكانة قناة الجزيرة بين القنوات الفضائية التي غطت هذه الحرب بريادة، ومكانة المسيرة التركية "بيرقدار" بين الطيران الحربي المستخدم فيها.

غير أن الأمر لا يقتصر على هذين المثالين وإنما يمكن أن نذكر معهما بعض الأمثلة التي تتقاطع معهما مثل البنوك الإماراتية، التي تحدثت وسائل الإعلام عن اهتمام أثرياء روسيا بتحويل أموالهم إليها بسبب تهديد البنوك الغربية بمصادرتها، وكذلك المكاسب الدبلوماسية الحيوية التي تتيحها هذه الحرب أمام عدد من الدول المسلمة بطرق مختلفة (تتيح لإيران -مثلا- فرصة علاقة ندية مع روسيا لاحتياجها لها سياسيا وإعلاميا واقتصاديا).

وهذا المقال قراءة في الدلالات الحضارية لهذه المؤشرات بالاستعانة بمقولات لكل من مؤرخ الحضارات المشهور أرنولد توينبي، والمفكر الحضاري مالك بن نبي، ثم بإدراج التحول الذي تؤشر عليه في سياق التحولات التاريخية التي مرت بها الأمة خلال العقود الأخيرة.

الفئة المبدعة

يرى فيلسوف الحضارة أرنولد توينبي أن نشوء الحضارات مرتبط بوجود فئة مبدعة، وقادة ملهمين يقودون استجابة المجتمعات للتحديات الوجودية التي تواجهها، ونهوض الحضارات مثل نشوئها في محورية دور هذه الفئة، والأهمية الكبيرة لهذين المشروعين، اللذين اتخذناهما مثالا على بوادر نهوض الأمة المسلمة، وتهيئها للاستفادة من صراع الأمم، لا تقتصر على قيمتهما في نفسيهما وإنما في الفئة المبدعة التي امتلكت القدرة على ابتكارهما والإرادة لتنفيذهما.

ويرى المفكر الحضاري مالك بن نبي أن "الفكر الفني يعجل حركة التاريخ"، وقد أظهرت هذه الحرب أن المسلمين امتلكوا من الفكر الفني ما يجعلهم في مصاف الأمم المهيأة لريادة المستقبل، فأن تتميز إبداعات أمة ما في ساحات معارك الأمم الأخرى فذلك يعني أنها سلكت طريق النهوض وضمنت لنفسها نصيبا موفورا في المستقبل.

ولعل نظرة عامة، إلى مجمل نجاحات هذين المشروعين، تثبت أنهما لم يحلقا في سماء أوكرانيا فقط، وإنما حققا بهذا التحليق شيئا -ولو يسيرا- من تطلعاتِ أمةٍ هِيضتْ أجنحتها زمنا طويلا.

1- فقد نجحت الجزيرة، على مدى تاريخها، في تغيير بعض جوانب علاقة التفاعل الإعلامي بين الأوروبيين والمسلمين:

  • فقد كان المسلم مستقبلا والأوروبي مرسلا، فنجحت الجزيرة -من خلال قناتها العربية- في استعادة استقبال المشاهد العربي واستطاعت -شيئا ما- من خلال قناتها الإنجليزية أن توجد حالة يكون فيها المسلم مرسلا والغربي مستقبلا.
  • وقد كان المسلم صحفيا عاملا، والغربي مديرا مشغلا، فاستطاعت الجزيرة أن توجد حالة يكون فيها الغربي صحفيا عاملا والمسلم مديرا مشغلا.
  • وقد كان الإعلام الغربي يغطي المعارك بين المسلمين فغطت الجزيرة معارك الأوروبيين.

2- أما بيرقدار فيمكن إيجاز نجاحاتها في تغيير علاقات التفاعل الحربي بين المسلمين والغرب فيما يلي:

  • فقد كان الغرب ينتج السلاح والمسلمون يشترونه، فنجحت بيرقدار في صنع حالة معاكسة: مسلمون ينتجون وغربيون يشترون.
  • وقد كان السلاح الغربي يحسم الحرب في إقليم "نوكرنو قره باغ" لصالح أرمينيا المسيحية، فحسمتها بيرقدار لصالح أذربيجان المسلمة.
  • وقد كان سلاح الجو الغربي السيدَ في سماء معارك المسلمين، فحضرت بيرقدار في سماء معارك الأوروبيين.

سياق النهوض

أما فيما يتعلق بالسياق التاريخي فتؤطره تحولات كبيرة وقعت خلال العقدين الماضيين، أولاها هي الانتصارات في مواجهة المحتلين (لبنان سنة 2000 وأفغانستان سنة 2020) وثانيها هو الثورات العربية، وثالثها هو النجاحات التنموية والسياسية الكبيرة لعدد من الدول المسلمة المؤثرة (ماليزيا نموذجا).

فإذا نحن وضعنا المكاسب التي حصلتها هذه الإنجازات الفنية التي ذكرنا أمثلتها في هذا السياق، نرى أن السير المجمل للتاريخ، في هذه اللحظة التاريخية الخاصة، يحمل الكثير من الأمارات على نهضة الأمة الإسلامية، رغم الجراح التي تصاحب هذه النهضة، بل بشهادة هذه الجراح؛ فالعادة أن الأمم لا تنهض إلا بأثمان غالية.

فالمعالم الكبيرة لسيرورة تاريخ الأمة خلال هذه الفترة كما يظهر من هذا السياق هي إجلاء المحتلين، أو تحقيق توازن رعب معهم قيام ثورات شعبية كبيرة أطاحت بمستبدين، ولا تزال تواجه آخرين بروز نماذج اقتصادية وسياسية رائدة في كبريات الدول المسلمة وجود مشاريع حضارية، تقنية ومؤسسية، رائدة؛ كالنموذجين المذكورين.

وننبه -في ختام هذا المقال- إلى أن الغرض منه ليس الخروج بقراءة حتمية تجزم بأن الكاسب الوحيد من هذه الحرب سيكون المسلمين، ولا حتى إنهم سيكونون من بين أهم الكاسبين، وإنما الغرض هو التنبيه على أن المؤشرات القائمة تجعلهم من بين الكاسبين المحتملين، ويبقى تحقق هذا الاحتمال رهنا للعوامل التاريخية وقبل ذلك الأقدار الربانية، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.