شعار قسم مدونات

الألم والغناء في الثورة السورية

عبد الباسط الساروت.. أيقونة الثورة السورية ومنشدها وشهيدها
عبد الباسط الساروت.. أيقونة الثورة السورية ومنشدها وشهيدها (الجزيرة)

تفرّدت الثورة السورية عن غيرها من الثورات العربية بظاهرة الغناء والإنشاد، فقد كانت الأناشيد والأغاني والكلمات مظهرا أساسيا من مظاهر الاحتجاجات الثورية، بدءًا من انطلاق شرارتها في 25 مارس/آذار 2011، مرورًا بجميع مراحلها، وحتّى مضي 10 سنوات على ذكراها هذه الأيام.

رافق الغناء جميع أحداث الثورة السورية بدءًا من الاحتجاج والمطالبة برحيل النظام وحتى الخروج والهجرة وعبور المخاطر واللجوء، مرورًا بآلام القتل وأخطار القصف والاعتقال والتشريد والحروب والمعارك.

نبع الإنشاد والغناء أصيلا من الشعب السوري الذي أبدع الكلمات ولحنها وأنشدها في عفوية وتلقائية وإبداعية مدهشة. وفي الشهور الأولى للاحتجاج برز اسم إبراهيم القاشوش، عامل الإطفاء والمنشد، الذي ردد آلاف المحتجين كلماته: "يلا ارحل يا بشّار" في جمعة "ارحل" في مدينة حماة السورية في الأول من يوليو/تموز 2011، والذي دفع حياته الغالية ثمنًا لإلهاب جماهير السوريين، فاختُطَف وقُتِل واقتُلِعَت حنجرته كما تقول الروايات.

وفي حلب، برز أبو الجود منشد الثورة في مسائيات التظاهرات والتجمعات، الذي أبدع الأغاني الثورية في قوالب المواويل الحلبية. وعبد الوهاب ملّا الذي كان يغني "هالبلد مني ومنك" ثمّ اختفى في نهاية عام 2013.

 

 

وفي حمص، برز "عبد الباسط الساروت" الذي اغترف من الموروث السوري واللهجة المحلية الحمصية ملهبًا روح الثورة، فخلدت حنجرته روح الحرية: "حانن للحرية حانن، يا شعب ببيته مش آمن" و"جنّة جنّة جنّة، جنّة يا وطنّا". وكان حظ "ساروت حمص" أفضل قليلا من "قاشوش حماة" فعاش وأسهم في صناعة الأحداث التي تلت، وحوصِر في حمص مع من تبقّى من أهلها، فغنّى لها: "لأجل عيونك يا حمص"، وحين اشتد القتال وغدَت "الشهادة" قاب قوسين أو أدنى غنّى: "يايُمّا بثوب جديد.. زفيني جيتك شهيد.. يا يُمّا"، وحين أُخرِج مع من أُخرجوا من حمص ووصل إلى إدلب قاتَل هناك، وغنّى لإدلب: "يا إدلب جودي ونادي" وإدلب أم الأبطال…"، ثمّ صدّق قدرُه كلماتِه فاستُشهد في قصف روسي على إدلب في يونيو/حزيران 2019.

وفي الغوطة الشرقية، برز "أبو ماهر صالح" الذي أبدع أغاني ومواويل كثيرة تغنّى بها في حصار الغوطة وما تلاها من تهجير ونزوح نحو إدلب، مثل "سوريا يا أرض الكرم.. شعبك الجبّار وقت المحن".

وهناك غير هؤلاء من المنشدين والمبدعين الذين برزوا من داخل صفوف الثوّار، فهناك أبو مالك الحموي، وخاطر ضوّا وأحمد القسيم من حوران، وقاسم الجاسوس الذي لا يزال ينشد في إدلب.

هؤلاء المنشدون المحليّون برزوا من صفوف الثورة واستلهموا التراث الشعبي وأبدعوا كلماتٍ جديدة للثورة واستفادوا من الألحان الشعبية والمواويل والقدود الحلبية، وخلدوا أحداث ثورتهم ومطالبها وآلامها في الغناء، فأنتجوا خطابًا ثوريًا غنائيًا لا يُبليه الزمن، ولا يمكن أن يُقصف أو يقتَل أو يُنفى.

والتحمت بالأغنية الثورية الشعبية أغنيةٌ ثورية أخرى قادمة من المهجر، والتحم مغنّو المهجر بشعبهم وأصلهم مبكرًا جدًّا، وكان أبرزهم "سميح شقير" الذي اشتهر بالتراجيديا الحزينة "يا حيف"، إذ مضى يصف في كلماتها مأساة القتل الجماعي في المظاهرات: "زخّ رصاص على الناس العزّل يا حيف.. أطفال بعمر الورد تعتقلن كيف"، واستلهم شقير شعار الثوار: "الشعب السوري ما بينذل" وغنّى: هيييه يا هووو الشعب السوري ما بينذل.. ما عاد فينا نتحمّل.. والكرامة حق الكل.. شو عملتو بإيد الرسام.. بحنجرة المغني"، وهنا يقصد الرسامين علي فرزات وإبراهيم القاشوش.

والتحم "مالك جندلي" عازف البيانو السوري الشهير بإبراهيم القاشوش وخلّد كلماته: "يلا ارحل يا بشار" في سيمفونية تجريدية رائعة من عزف البيانو، فأدخل ببراعته خطاب الثورة في الموسيقى الغربية المجرّدة أو العكس، ضمن ألبوم أسماه "إميسا" أو حمص، وأبدع "نشيد الأحرار" عام 2013 بكلمات قوية وأصوات أوبرالية وموسيقى غربية، وأبدع "وطني أنا وأنا وطني.. حبك نارٌ في فؤادي".

كانت حالة مالك جندلي خاصة، فهو موسيقار عالمي يحترف الموسيقى الغربية، ولم يتردد لحظة في الالتحام بخطاب الثورة وإلقاء شررٍ فيها من موسيقاه، وأدخل موسيقى الثورة السورية في الموسيقى العالمية.

ومن مغنيي المهجر كذلك "يحيى حوّا" المنشد وقارئ القرآن الذي كان لأناشيده طابع حزين يحكي فيها الآلام، مثل "ياسمين الشام" التي غنى فيها: "بيّي استشهد أماننا.. وبعدتوا إمي عنّا.. تئسر خيّي ليش ليش.. شو اللي صار بموطننا"، وقد تحكي هذه الأغنية تجربته الشخصية. وغنّى "سقطت جدران الخوف" و"شو منحبك يا بلادي" وغيرها من الأناشيد المُغنّاة للثورة.

ومن المهجر برز كذلك "وصفي المعصراني" الذي يعيش في جمهورية التشيك، والذي وظّف الموال السوري، وغنّى "سكابا يا دموع العين سكابا على سورية وشبابها" وغنّى "حلم الشهادة" و"أصابع نصر" و"شدّو الهمّة" وغيرها من الأغاني، والتحم بمغنيي الثورة ولحّن لعبد الباسط الساروت مثلا: "يا يُمّا بتوب جديد.. زفيني جيتك شهيد".

والسؤال: لماذا تميزت الثورة السورية بهذه الظاهرة الغنائية، التي تكاد تغرف من معين لا ينضب؟ فالأغنية قد وثقت جميع مراحل الثورة بدءًا من الاحتجاج، وحتى التهجير والحرب والقتال. وفي إدلب في هذه اللحظة لا تزال تُبدَع الأناشيد والمواويل.

يقول المفكر السوري أحمد البرقاوي إن الغناء أصيل في الشعب السوري، فالسوري حين يعمل يغنّي وحين يزرع يغنّي وحين يحصد يغنّي، ويغنّي أثناء تشييع شهدائه. فالغناء مفردة حياتية مستديمة مع السوري، فالغناء الثوري استمرار لحالة أصلية وتقاليد أصيلة. وقد حُرِم السوري من الغناء للوطن عقودا، فقد كان الصمت مخيّمًا بشدّة خلف اللحظة التي تكلّم فيها السوريون. احتكر النظام الأسدي الأغنية الوطنية 40 عامًا، بل وأصمَتَ الشعب السوري، فكان الإصمات فعلا من أفعال القهر، وكان الصمت فعلا من أفعال غريزة البقاء تحت نير نظامٍ قاهر. وحين تكون الحالة كذلك يكون الكلام والغناء ورفع الصوت عاليًا فعلا من أفعال العودة للحياة وعيشها بكرامة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.