شعار قسم مدونات

السياسة الدولية والمكياج

العقوبة اجتماعية لاستخدام مساحيق التجميل (بيكساباي)
صار لزاما صناعة المكياج السياسي للسياسات الدولية التي تعدت القارات ابتداء من أميركا القائدة الرائدة في ذلك ومرورا بالدول الغربية (بيكساباي)

تحتاج المرأة منذ باكورة الحياة إلى أن تتجمل، وظن الناس أن هذا الأمر مقصور على المرأة في الحياة رغم أن الرجل منذ عصور ما قبل التاريخ لم يهمل أن ينظر في المرآة منذ أن عرفت الحياة المرايا، بل وقبل ذلك كان ينظر في صفحة الماء ليرى وجهه ويحاول أن يحسن من مظهره، لكن القرن الـ20 قدم تطورا مذهلا في كل شيء، ومن ضمن هذا ذلك التطور في المكياج ومساحيقه وألوانه وعمليات التجميل وفرد الوجه والبوتكس والتغلب على التجاعيد وأقلام طلاء الشفاه والحاجبين وبودرة الوجه؛ في عصر ازداد فيه سفور المرأة وتبرجها بزينتها حتى أصبح هذا من علامات العصر الذي نعيشه، وبصرف النظر عن موافقتك أيها القارئ الكريم في مجال السياسة على هذا أم لا، وجدنا في القرن الـ20 الرجل يقلد المرأة في استعمال المكياج من بودرة و"أحمر الشفاه ورسم الحاجبين، وبالطبع في المقدمة الرجل الأميركي الذي بدأ من الربع الثاني من القرن الـ20 سيد العالم الحديث الذي يُقتدى به وبسلوكه في كل العالم وتتناقل الصحف والإذاعات والسينما ثم التلفزيون ما يحققه هذا الكائن العجيب من أفعال مبهرة مرورا بصناعة النماذج المتحفة للعالم من القادة الرؤساء إلى النماذج الأخرى في كل المجالات ومن "الفيس بريسلى" حتى "مايكل جاكسون"، لكن الملفت أن رجال السياسة في أميركا ورؤساءها في غالبهم الأعم في القرن الـ20 كانوا يتفننون في المكياج؛ ليبدو الرئيس الأميركي رئيس أكبر دولة في العالم هو الأجمل والأكثر أناقة وجاذبية، وأوضح وأقرب الأمثلة ترامب الذي حافظ على صبغة الشعر الملفتة وتفنن في إبداء نضارة الوجه باستخدامه لأرقى أنواع بودرة الوجه التي تعطي انطباعا بالشباب والحيوية.

وكما تَجمّل هؤلاء الساسة الأميركيون في شكلهم؛ فقد استخدموا المكياج لسياساتهم على نفس المنوال، ولكن السياسة كانت أحوج إلى المكياج من مُحيّا السياسي لسبب مهم وهو أنهم جميعهم اتفقوا على شيء واحد؛ وهو أنهم لكي يحافظوا على أميركا في المقدمة والصدارة من القوة والغنى والسيادة فإنهم لا يترددون في أن يمارسوا أقذر السياسات إن تطلب الأمر، وفي الغالب ما يُلح الأمر على ذلك، فصار لزاما صناعة المكياج السياسي للسياسات الدولية المتعدية القارات ابتداء من أميركا القائدة الرائدة في ذلك ومرورا بالدول الغربية التي انتهجت لنفسها نفس السياسة التي تكون في الغالب ممالئة للولايات المتحدة الأميركية القائدة للغرب التي خرجت بالدول الغربية من شر هزيمة لبريطانيا وفرنسا إلي انتصار سحق كل الإمبراطوريات القديمة لصالح غرب يسيطر على العالم تقوده أميركا.

تفننت مصانع المكياج السياسي في العالم من وسائل إعلام تتمثل في صحف ومجلات وإذاعات ثم السينما والتلفزيون إلى أن وصلنا إلى عصر الاتصالات الرقمي الذي أملى على كل إنسان حتى لو كان بسيطا في حياته أن يرى كل ما يحدث في العالم.

فرأينا أميركا رائدة فنون المكياج السياسي في العالم تشيطن كل المنهزمين في الحرب العالمية الثانية وبالتالي تباعا لذلك هي تصنع من نفسها الملاك بصورته الجميلة الذي خلص العالم من النازية ثم هي برأسماليتها المبدعة في كل شيء، وهي المنوط بها أن تهوي بالشيوعية إلى غير رجعة، وقد تحقق ذلك في العالم كله، فانبهر العالم أكثر بأميركا المذهلة التي تحسن وتتقن إخراج صورتها بـ"الموك آب" الكامل الأخّاذ مثل دمية باربي الجميلة جدا أو كملكات الإغراء الشهيرة "مارلين مونرو" و"جون مانسفيلد" مثلا، وبالطبع هذا المكياج المتقن يريد أن يغطي على قذارة السياسة التي هي الحقيقة المتبعة من أقوى قوة في العالم، هذه القذارة التي ألقت قنبلتين نوويتين على مدينتين يابانيتين هما "هيروشيما" و"ناكازاكي"، مرورا بالأزمة الكوبية والأزمة الكورية وحرب فيتنام الفاشلة، ثم الدعم المنقطع النظير للاحتلال الصهيوني للأراضي العربية، ثم الفشل في لبنان والصومال ثم تمثيلية تحرير الكويت التي ابتدأت بها الدولة العظمى برنامجها لتدمير العراق ثم الحرب على العراق وأفغانستان في عام 2003 في آن واحد؛ كل ذلك صاحبه ماكينة للدعاية غير عادية تفعل فعل السحر في الآذان والعيون كي تجمل شكل وأفعال وسياسات جوهرها وحقيقتها تفوح بكل الروائح الكريهة للاستعمار البغيض الفاشل الذي يدمر الأخضر واليابس ويزيد الفقر في دول تعيش بالكاد ويطحن شعوبها ويزيد العداوات والمشاكل بين الشعوب؛ بل بين أبناء الشعب الواحد، وحين تقوم ثورات مثل ثورات الربيع العربي دمرت السياسة الأميركية -الدولة العظمى المسؤولة عن الأمن والسلم الدولي في العالم- حياة دول الربيع العربي التي خرجت تطلب حريتها من طغاة الحكام الذين صُنِعوا على أعين السياسات الأميركية في العالم، فكانت عقوبة كل دول الربيع العربي ردة إلى حال أكثر انتكاسا من أوضاع بن علي ومبارك وعلي عبد الله صالح، لتتحسر الشعوب على أيام الطغاة السابقين، الذي يهمنا في هذه التدوينة ما نعنيه من المكياج الذي يوضع على السياسات الدولية القذرة التي تغرق الشعوب في الهلاك، ولكنها سياسات على وجهها المساحيق تقول لنا الدولة العظمى المسؤولة عن العالم إنها هي التي قادت العالم الحر لتحرير الكويت من الطاغية صدام. ما أجمل هذه المساحيق التي تعطي صورة النبل وتضفي هالة من القداسة المصاحبة للجمال الذي تُيّم به المغفلون من العرب. هذه المساحيق بالطبع غطت على قتل أطفال العراق وتجويعهم في مئات الآلاف من الطلعات الجوية الآلة الإعلامية والمؤتمرات الصحفية ومحطات التلفزة ومهمات عظيمة لنشر الديمقراطية والحرب على الإرهاب العدو المشترك للغرب والدول المتخلفة التي هي كما يصورها الغرب حاضنة للإرهاب، ذلك الإرهاب الذي يراه الغرب دوما إسلاميا وهو -أي الغرب- ذو الوجه الجميل الأبيض الذي تعلوه المساحيق البديعة الألوان، ذلك الغرب الذي تقوده أميركا جاء ليقود الحياة ويزيد الإبداع فيها وتتنافس وسائل الدعاية من فضائيات وسينما ويوتيوبرز لترسم لنا الصورة الجميلة لأميركا، ثم اليوم من كمال رسم الصورة وكما قال الشاعر العربي القديم:

الضد يظهر حسنه الضد       وبضدها تتميز الأشياء

ينبغي على من يرسم سياسة العالم أن يُرينا مشهدا في المسرحية من نوع آخر؛ وهو هذا العدو القديم وريث الاتحاد السوفياتي (روسيا) الذي يُستفز استفزازا ليقع في شرك أن يقوم بالحرب مع جارة كانت جزءا منه، فيصبح المعتدي العدو لأوروبا هو غير الإنساني، وهنا لاحظ آلة الدعاية الأميركية التي تُوصّف أعمال روسيا بغير الإنسانية، وذلك على أن أعمالها -أي أميريكا- كانت إنسانية ابتداء من هيروشيما وناكازاكي، وحتى خروجها من أفغانستان تجر ذيول الخزي. نعم ونرى المكياج المجمل لأميركا مقابل المكياج الذي يرسم الصورة البشعة لروسيا، فما أبدع المخرج الذي يرسم لنا ذلك المنظر العبقري ونحن أفواهنا مفتوحة من شدة المنظر الأخاذ، وسيظل ينطلي علينا الأمر طالما كان الوعي غائبا، بل العقول مغيبة، لتسير قوافل الشعوب مثلما أرادت الإمبراطورية الأميركية المسيطرة على العالم بنفس السياسة الميكافيلية التي طبقها الغرب لقرون مضت، لكن ميكافيلي نفسه كان أكثر صراحة لأنه رغم عمله الدبلوماسي؛ فإنه كان صريحا وواضحا في أهدافه وسياساته وبرغماتيته بدون مساحيق تجميل ودون مكياج، وبالطبع السياسة الدولية منذ خرجت أميركا من أرضها لتقود العالم يغلفها المكياج والتصنع والدجل ولا حل إلا بإزاحة ذلك "الدجال" الأكبر عن قيادة العالم أو على الأقل أن تتوازن السياسة الدولية بخروج أمة ناضجة تزيل المساحيق عن الوجه القذر ليراه البشر على حقيقته.

بقي أن نقول شيئا واحدا، وهو أن صناعة مكياج للسياسات الدولية القذرة تجربة قديمة جديدة في بني الإنسان اقتدت فيها أميركا والغرب بالشيطان الرجيم الذي لبّس وغلّف الحقائق بغطاء من الزيف شديد البريق حين قال لآدم:

(هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ) – سورة طه

فانخدع آدم عليه السلام، لكن اليوم الخداع بالمكياج الأميركي أكثر تلبيسا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.