شعار قسم مدونات

الحيف الثقافي.. كيف تحولت الجسور إلى أسوار؟

blogs - خريطة الشرق الأوسط
خريطة الشرق الأوسط (مواقع التواصل الاجتماعي)

صدر كتاب جديد يحمل مقاربة واقعية بين الشمال والجنوب تحت عنوان "جسور لا أسوارـ مقاربة جديدة لعلاقة الشمال بالجنوب" جاء الكتاب الذي يقع في 240 صفحة ليكشف زيف القيم الغربية والظلم الذي يمارسه الغرب على الآخرين تحت سلطة الثقافة الغالبة من تأليف سعادة الدكتور حمد بن عبد العزيز الكواري رئيس مكتبة قطر الوطنية وهو دبلوماسي قطري تقلد عدداً من المناصب المهمة في بلده، أخذتُ الكتاب بقوة وتأملتُ صفحاته فوجدتُ المؤلفَ قد جمع بين سلاسة الفكرة وقوة اللغة وجمال الأسلوب وتدفق المعاني والاستطراد التاريخي، كانت التوطئة بديعة عندما اقتبس المؤلف جملة شهيرة للروائي الأميركي ذائع الصيت أرنست همنغواي تقول:

إن للجسور أرواحاً، والجسور التي يعبرها البشر لا يمكن أن تكون أمينة أبداً، يمكن أن تنهار، يمكن أن تجرفها السيول، وقد تصاب كما تصاب الحيوانات بالأمراض

تبدو مقارنة الشمال المتخم بالمعرفة بالجنوب الذي يعيش تخلفاً غير مسبوق على مدى التاريخ في ظل انتشار المعرفة فكرة غير عادلة، إننا نعيش في عالم تتسابق فيه الأفكار وبإمكانك معرفة ما يدور في أدغال أفريقيا أو عادات قبائل الإسكيمو التي تعيش في القطب المتجمد بضغطة زر على هاتفك المحمول، لم يصل الإنسان في يوم من الأيام إلى هذا الترف في سهولة الوصول إلى المعرفة، لكن الفكرة التي يطرحها الكتاب هل تم استغلال المعرفة لبناء جسور الوئام والحب بين الأمم؟ أم كانت حجر عثرة لتلاقي الحضارات وسوراً يمنعنا من الوصول إلى فضائل الثقافات؟

يخبرنا التاريخ الإسلامي كيف كان المسلمون يؤثرون ويتأثرون بالأمم المجاورة ولا يضعون سورا منيعا لمن يختلف معهم، قرأنا قصائد الأخطل النصراني وأخذنا صك العملة من الروم ونقلنا الدواوين وشؤون الحكم والأنظمة الإدارية من الحضارة الفارسية، وأنشأ المسلمون محاضن العلم والكليات في حواضر الإسلام دون أن يمنعوا أحداً من الانتساب إليها أو التفوق فيها بحجة الإقصاء الثقافي، بل إن غير المسلمين والعرب تقلدوا بعض المناصب المهمة عبر التاريخ الإسلامي.

يسرد الكتاب شخصيات عظيمة من التاريخ الإسلامي كانت تمثل جسراً متيناً في العلوم والمعارف وبشهادة الغرب من أمثال أبو علي الحسن بن الهيثم عالم البصريات المشهور وغياث الدين أبو الفتوح المشهور بــ (عمر الخيام) الذي أنجز حساب طول السنة الشمسية إلى حدود عشرية بعد الفاصل، ومحمد بن جابر البتاني عالم المثلثات الذي قدم أبحاثاً جليلة في علم الرياضيات، وقدمت الحضارة الإسلامية إسهاماً مركزياً في الطب عن طريق مؤلفات وأبحاث أبوبكر محمد الرازي الذي عرف الحمى على أنها من دفاعات الجسم، والطبيب أبو القاسم الزهراوي الأندلسي الذي يعد أحد الآباء المؤسسين لعلم الجراحة، والعالم الطبيب علي بن الحسين بن سينا الذي ألف أحد أشهر المراجع العلمية في الطب وهو كتاب "القانون في الطب"، ناهيك عن إسهام الحضارة الإسلامية في الفلك والكيمياء والرياضيات.

يتنكر الغرب لكافة الإسهامات الحضارية ويعتقد أنه المركز لكل معرفة وقيمة، وقد تأثرت عندما قرأتُ في الكتاب بأن دوريس ليسينغ الحائزة على جائزة نوبل في الأدب سنة 2007 قالت إن الأطفال في زيمبابوي كانوا يتوسلون إليها قائلين "نرجوك، أرسلي لنا الكتب عندما تعودين إلى لندن"، وفي مقابل هذه الصورة التي تبين مدى بناء الأسوار بين الحضارات تظهر فكرة إقدام بعض المكتبات في الولايات المتحدة على حرق الكتب بسبب كثرتها وافتقاد المكتبات لفضاءات التخزين، فمتى يتعظ بنو البشر ومتى يدركون أن ما يزيد على حاجتهم من المعارف قد يكون غيرهم في أمس الحاجة إليه؟

يناقش الكتاب في فصوله بعقلانية مدى التفرد في اتخاذ القرار من الغرب وعدم مشاركة الأمم المجاورة والثقافات الأخرى في تقرير مصيرها، وأتأسف حقاً بصفتي أفريقي درس باللغة العربية على أن الثقافة التي أنتمي إليها متأخرة عن الركب ولا تستطيع أن تقف موقفا بطوليا حتى تثبت مكانتها المتميزة ودورها في الرقي الإنساني.

استئثار غربي للمناصب

يشرح الكتاب فكرة مهمة وهي كيف أن المنظمات الدولية ترفع عالياً شعار "التنوع" بحجة المساواة التمثيلية بين القارات، ولكن عندما نتمعن جوهر التنوع نتيقن بأنه مجرد سراب يفتقر إلى أي مصداقية، لم تستطع أي شخصية مسلمة منذ تأسيس منظمة الأمم المتحدة عام 1945 من الوصول إلى الأمانة العامة للمنظمة الدولية الأهم في العالم، رغم أن عدد المسلمين قد بلغ المليار ونصف المليار من البشر.

ويظهر سراب التنوع أيضا في الوظائف المهمة التي يتقلدها ممثلو دول الشمال حيث توظف الأمم المتحدة 2531 موظفا من الجنسية الأميركية، وتستحوذ الدول الأوروبية على المناصب المهمة والحساسة، إذ يشغل مواطنو الدول الغربية 71% من الوظائف، ومالا يقل عن 90% من الموظفين في بعض الأقسام والفروع، بما في ذلك فرع السياسات وفرع الاتصالات الإستراتيجية، يمثل عالم الجنوب بقاراته القديمة 85% من العالم ولكنه مغيب تماماً عن دائرة القرار، إذ لا يتم اختياره إلا للمهمات البالغة الخطورة أو في مناطق النزاع والصراعات.

لقد حان زمن تصحيح المسار وأضحى لزاما على كل الضمائر الحية في العالم النضال من أجل تقليل الفجوة في كل المجالات بين الشمال الغني والجنوب البائس، ويجب علينا أن نتطلع للعدالة ونسعى لها دون توقف، فالحقوق تنتزع بالمطالبة وليس بالسكوت والرضا.

الحوار سبيل التفاهم العالمي

تروج الثقافة الإسلامية العربية لفكرة الحوار، ولم تتخل ثقافتنا يوما عن الحوار باعتباره الدعامة الأساسية للبيئة الإبداعية في شتى المجالات، فنجد القرآن الكريم يشرح قيمة الحوار دون تكلف، بل يرد أحيانا وجهات النظر المختلفة، فقد حاور الله الملائكة وإبليس وهناك حوارات دارت بين الأنبياء وجماعتهم، والغاية الحقيقية من الحوار هي الوصول إلى التفاهم دون أن تكون هناك غلبة للرأي وقد تمثل الإمام الشافعي بحكمة خالدة تقول "رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب".

وقد أدرك العرب قديما أهمية الحوار بين المسلمين مع غيرهم من أهل الكتاب وحتى مع المجوس أيضاً، ويسرد المؤلف عدداً من القصص التاريخية والمؤلفات العظيمة التي حملت تنوعا فكرياً وثقافياً، ولا أدل عن ذلك نقله لما أورده الإمام الذهبي عن خلف بن المثنى أنه قال "كان يجتمع بالبصرة 10 في مجلس لا يعرف مثلهم في تضاد أديانهم ونحلهم: الخليل بن أحمد الفراهيدي، صاحب العروض سني، والسيد بن محمد الحميري رافضي شيعي، وصالح بن عبد القدوس ثَنَوي مانوي، وسفيان بن مجاشع صُفري (الصفرية فرقة من الخوارج) وبشار بن برد خليع ماجن، وحماد عجرد زنديق، وابن رأس الجالوت كبير الحاخامات، وابن نطيرا متكلم النصارى، وعمرو ابن أخت الموبذ وروح بن سنان الحراني صابئي فيتناشد الجماعة أشعاراً.."

ولم تكن ثقافة الحوار مقتصرة في مجالس العلم فحسب، بل كانت عادة مجتمعية في المساجد ومجالس العامة والتي برهنت على صلة الحوار في بدايات الحضارة الإسلامية بحق الاختلاف وقبول الآخر واحترامه مهما كان سبب الاختلاف ونوعه، ويمثل هذا الفصل من الكتاب نقطة فارقة في شرح مساهمة المسلمين في رعاية الحوار من خلال ترجمة الأعمال المهمة نقلاً عن الحضارات المجاورة ودور الخليفة المأمون الريادي في صناعة الترجمة من أجل التفاهم العالمي.

نحن من بنى الأسوار؟

أعتقد أننا بحاجة إلى بناء جسور داخلية قبل الشروع في فكرة بناء الجسور مع الآخر، ألم ندفع الأموال الطائلة ونجيش الجيوش من أجل منع المرشح العربي للوصول إلى منصب الأمانة العامة باليونيسكو؟

ألم يصدح ممثل أحد الدول العربية قائلا: تحيا فرنسا بعد إعلان النتائج الختامية.

كيف نطالب العالم بمد أواصر التعاون وجسور الإخاء ونحن نبني أسواراً منيعة وندفع بالمرشحين واحداً تلو الآخر لمنافسة أشقائهم الذين ينحدرون من نفس الثقافة واللغة، أنى لنا الفوز ونحن نهرول باستبدال اللغة العربية الجميلة بالإنجليزية والفرنسية حتى أن المثقف العربي يخجل أن يتحدث بلغته كي لا يرمى بالتخلف والرجعية، إننا بحاجة إلى إصلاح داخلي وبناء جسور داخلية قوية  تهتم بثقافتنا ولغتنا حتى يحترمنا الآخرون ويرون في حضارتنا وثقافتنا مصدر إلهام، إذا كنا نملك كل هذا الكم الهائل من المعلومات والمعرفة والتاريخ الإنساني الحضاري ولا نستطيع أن نقدم أي إسهام معاصر للعالم فمعنى ذلك أنه لا توجد قيمة ذات معنى لكل ما سبق.

أنصح القراء باقتناء كتاب جسور لا أسوار وقراءته ففيه مادة علمية قيمة وحقائق تاريخية ملهمة وأفكار جوهرية مهمة، تعجبني في كتابات الدكتور حمد الكواري أفقه الإنساني، فرغم أهمية الكتاب للقارئ العربي فقد ركز على الحضارات الأخرى التي هضم حقها ولم تنل مكانتها وتقديرها، ولعل أبلغ مثال ختم به الكتاب المعاناة التي يعانيها الأفارقة في مضمار الحقل الإنساني والثقافي والمعرفي، لقد حرم الغرب ومنظومته الاستعمارية الدول الأفريقية من أعظم سلاح يمكنهم من النهوض من خلاله وهو العلم، وأن فرنسا راعية اليونسكو لم يسبق لها قط في تاريخها تدشين جامعة أكاديمية في أكثر من 10 دول استعمرتها في أفريقيا جنوب الصحراء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.