شعار قسم مدونات

العالم بين موازيين التسلح والبحث عن القوة الذاتية

الرئيس الروسي بوتين والناتو
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وخلفه شعار حلف الناتو (الجزيرة)

كل الدلائل تشير إلى أن العالم لن يكون كما كان قبل الغزو الروسي لأوكرانيا، الذي قلب كل المسائل المطروحة رأسا على عقب بدءا من الاقتصاد والطاقة، إلى التسلح وتمدد مناطق النفوذ، وزيادة المخاطر التي تحيط بالسلم والعلاقات الدولية، وازدياد الأزمات الدولية المتعلقة بملايين اللاجئين الجدد من الساحة الأوكرانية في شرقي وغربي أوروبا، مع آثار الدمار الواسع الذي أحدثه الغزو الروسي وتبعاته المتشعبة في العلاقات السياسية والاقتصادية والعسكرية، مما يُنشئ أوضاعا خاصة متميزة عن تلك التي سبقت المواجهة بين روسيا والغرب عموما، وبروز القلق والتهديد الفعلي من إمكانية نشوب حرب نووية بشكل خاص مع زيادة منسوب التهديد الروسي لاستخدام هذا السلاح خصوصا بعد إصابة مفاعل زبروجوفيا الأوكراني بقذائف روسية.

يعود هذا القلق في جانب أساسي منه إلى الإلحاح الروسي "ظاهريا" في مطالبه الممثلة في استسلام أوكرانيا ونزع سلاحها، وتقديم ضمانات غربية بعدم نشر سلاح الناتو على أراضيها، لكن في صلب ما كشف عنه فلاديمير بوتين من أطماعه في عودة الإمبراطورية الروسية لمناطق السيطرة السوفياتية السابقة، عزز القلق الدولي من سياسات الكرملين بتكثيف العقوبات الدولية على موسكو، مع الإعلان الصريح عن دعم كييف بالسلاح وبمواقف دولية متراصة في جبهة واحدة، يجعل من رسم خريطة جديدة من العلاقات والمواقف الدولية أمرا نافذا.

وقد تجمعت هذه الوقائع كلها واتخذت لنفسها تركيبا معينا صبّ في مجرى الخوف والهلع الأوروبي والأميركي، وحدد بصددها أجوبة صلبة من خلال النقاش المحموم في مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة وجملة القرارات المتعلقة بالعقوبات الدولية على موسكو، سواء من خلال القرارات المتخذة أو النقاشات الدائرة حول مستقبل العلاقة الغربية بزعامة الولايات المتحدة مع موسكو، لأنه جرت العادة على القول دائما إن هناك فريقا معتدلا في الساحة الأوروبية والأميركية يخاف الكشف عن مواقف معتدلة مع موسكو أو محابية لها كما أظهرت إدارة ترامب سابقا، مقابل الموقف المتصلب أو الرافض لسياسات الكرملين، أو من خلال بعض المواقف الأوروبية من تمدد النفوذ الروسي في أوكرانيا 2014 وضم شبه جزيرة القرم، ومن ثم التدخل والاحتلال المباشر لسوريا ودعم النظام هناك بآلة عسكرية لا تختلف في نتائجها المدمرة عن الساحة الأوكرانية، وقد كان لهذا الأمر تأثيره العملي بالنتيجة لاتخاذ قرار الغزو المباشر لأوكرانيا.

الهاجس الأساسي الذي يخيم على المجتمع الدولي هو كيفية وقف العدوان دون التداعيات التي لن تتوقف في المستقبل القريب والبعيد، ففي الوقت الذي أخذت فيه برلين موقفا متشددا من موسكو وإعلانها التحرر من أهم شرط من شروط الاستسلام في الحرب العالمية الثانية بتقييد التسلح مع إدانة شديدة اللهجة للغزو، تراجعت برلين خطوة للخلف بموقف عبّر عنه المستشار الألماني:

لسنا جزءا من الصراع العسكري الدائر هناك (في أوكرانيا)

ولن نكون كذلك.. عدم مشاركة الناتو والدول الأعضاء في هذه الحرب

أمر جلي بالنسبة لنا تماما.

مما قد يثير حفيظة بعض المواقف المتشددة في أوروبا، لندن وباريس خاصة، أو موقف حلف الناتو الذي بدا أنه متماسك لجهة التزامه بحماية أعضائه بزيادة عدد القوات والعتاد في قواعده، لكنه ملتزم بعدم الانخراط المباشر في الصراع الحالي، وقد حُسمت هذه القضية بضجة أقل بكثير من القضية الأساسية التي أحاطت رغبة أوكرانيا في الانضمام للحلف وتوجس الكرملين من أسلحة الناتو بالقرب من حدوده، وكانت حجة أساسية أثيرت في الظاهر من موسكو لتبرير الغزو الذي تعود جذوره لرفض بوتين رؤية كيان أوكراني يتمتع بكل مواصفات الأمة والدولة والقومية والديمقراطية، وأن يكون جار يهدد مصالح الأوليغارشية الروسية من النموذج الصاعد نحو ترسيخ الديمقراطية وتبادل السلطة بشكل سلمي.

لقد جرى العُرف الروسي بزعامة بوتين على أن يجري التأكيد دائما على ضرورة وأهمية عودة الجمهوريات السوفياتية إلى بيت الطاعة الروسي للاعتراف بروسيا قوة عظمى وقطبا ثانيا للعالم، وقد بدأ هذا الطرح مبكرا منذ صعود بوتين للسلطة، وقد تم الرد عليه في الشيشان وجورجيا اللتان سبقتا المواجهة الحالية بسلسلة مواقف لم ترق لموسكو إلا بالإعلان عن الاحتلال المباشر والضم بالقوة لأراضي الغير ودعم الحركات الانفصالية والتهديد لدول البلطيق بإعادة احتلالها.

أخيراً، لا أحد ينكر أن تحولا مهما طرأ على طبيعة المشهد الدولي وعلاقاته، تعززت فيه مخاطر عديدة وحسابات عدة تخضع للنقاش والمراجعة، من الاعتماد الوحيد على الطاقة الروسية إلى مراجعة موازين التسلح، والبحث عن القوة الذاتية ومصادرها، وبناء تحالفات أكثر قوة، يغيب في كل تلك الحسابات الإستراتيجية العربية المتفرجة على ما يجري في العالم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.