شعار قسم مدونات

الفارابي ينبعث من جديد في الفلسفة الغربية المعاصرة

الفارابي وابن سينا وعمر الخيام يحاضرون في جامعة تركية
المشروع الفكري للفارابي مكنه من استيعاب ثقافات عديدة تجسدت في شخصيته بوصفه أديبا ورجلا صادقا (تمثال شمعي وكالة الأناضول)

يتتبع هذا المقال اهتمام الدراسات الفلسفية الغربية المعاصرة بكتابات الفيلسوف المسلم أبي نصر الفارابي، فيرصد أهم الإصدارات التي أُنتجت حوله، خاصة الصادرة منذ عام 2004، ويصنف المقال هذا النتاج الفكري حسب المسائل الفلسفية لكل من تلك الإصدارات، التي تشتغل اليوم بتمحيص أفكار الفارابي في العلوم واللغة والمنطق والموسيقى والميتافيزيقيا وغيرها.

لقد شغل الفارابي الفلسفةَ الكونية، شرقا وغربا، بأفكاره العميقة الأبعاد، فكان أثره بارزا في الفكر والفلسفة الغربية، وتُرجمت أبرز أعماله إلى اللاتينية منذ القرن السادس الميلادي، حتى إنه لُقب بالمعلم الثاني بعد أرسطو (المعلم الأول).

ولقد بقي أصله العرقي محلّ اختلاف حتى في الدراسات الفلسفية الغربية المعاصرة، حيث خلصت دراسة حديثة صادرة عام 2017 لصاحبها أولريتش رودولف إلى أنّ الفارابي فارسي الأصل، وإن كان هذا المفكر يدرك غياب أي قيمة فلسفية لهذا الأمر. وتبعا لذلك، يعتبر أنّ القول بالأصل التركي للفارابي إنما هو رأي متأخر وبرز في القرن السابع الميلادي مع ابن خلكان الذي أراد من خلال كتابه "وفيات الأعيان" أن يقدم الفارابي بوصفه نموذجا بارزا للمجتمع التركي حينها.(1)

وقد انتهى صاحب هذه الدراسة إلى تفنيد المزاعم القائلة بأنّ الفارابي كان من أتباع الشيعة الاثني عشرية، وأنه تعمد إضفاء نوع من الاتفاق بين فلسفته السياسية وأفكار الفرقة الإسماعيلية الشيعية، وأنّه سعى وراء سيف الدولة الحمداني لأنه يشاركه معتقداته الدينية. ويستند هذا المفكر في نقده إلى غياب إشارة عن مثل هذه المزاعم في المصادر الفكرية للعصور الوسطى، مبرزا أنّ حجج هذه المزاعم قائمة على نوع من التخمين ولم تلق قبولا في الأوساط العلمية الغربية الحديثة، لكون الفارابي لم ينتقل من بغداد إلى سوريا بدعوة من سيف الدولة الحمداني، الذي كان قد دخل حلب بعد عامين من مغادرة الفارابي لبغداد.(2)

وفي الحقل العلمي للفارابي، تهتم الدراسات الغربية بكتابه المشهور "إحصاء العلوم"، وهو مصنف لا توجد حتى الآن ترجمة كاملة له باللغة الإنجليزية، بينما صدرت عام 2015 ترجمة وتحقيق باللغة الفرنسية عن دار النشر الفرنسية "البراق"، تتضمن شرحا وتعليقا حول ما جاء في الكتاب.(3) وتولي دار النشر هذه اهتماما كبيرا لكتب الفارابي، فأصدرت دراسة نقدية وترجمة لكتبه الأخرى "كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة" عام 2011، و"كتاب الملة"، و"كتاب السياسة المدنية" عام 2012.

وبعد عام من صدور الترجمة الفرنسية لكتاب "إحصاء العلوم" التي كانت من النص العربي إلى الفرنسي، نشر المفكر الفرنسي ألان غالونييه تحقيقا نقديا وترجمة كاملة أخرى للكتاب بالفرنسية عن النسخة اللاتينية لكتاب الفارابي، وأشفعها بدراسة وافية لمضامينه.(4)  كما نشر المفكر جاكوب شنايدر عام 2006 تحقيقا نقديا مع ترجمة ألمانية للنسخة اللاتينية، التي كان ترجمها الفيلسوف والمترجم الإسباني دومينغو غونديسالبو في القرن الثاني عشر.(5)

ويلقى إسهام الفارابي في مجال اللغة، وخاصة " كتاب الحروف" الذي يتضمن أفكاره اللغوية، اهتماما معتبرا، حتى إنّ دار نشر جامعة كورنيل أصدرت عام 2020 ترجمة كاملة له باللغة الإنجليزية (6) أعدها الفيلسوف الأمريكي تشارلز باتروُورث المختص في الفلسفة السياسية الإسلامية، الذي سبق له أن أسهم في تحقيق وترجمة بعض كتب ابن رشد، بالإضافة إلى عدد كبير من المقالات الفلسفية حول الكندي والرازي وابن خلدون وموسى ابن ميمون.

وخلال الـ15 سنة الأخيرة، استقطبت أعمال الفارابي حول المنطق الكثير من الدراسات النقدية في دوريات مختلفة وأعمال جماعية وأعمال ترجمة وتحقيق، أبرزها المقالة النقدية الطويلة للمستشرق الإيطالي ماورو زونتا حول شرح الفارابي لأرسطو في كتابه "المقولات"، التي يُثريها هذا المستشرق بترجمة إنجليزية لأجزاء من مخطوطة عبرية لهذا الكتاب عُثر عليها حديثا.(7) لتتكلل هذه الأعمال عام 2021 بصدور أول ترجمة إنجليزية كاملة لأبرز كتب الفارابي في المنطق "كتاب الجدل"، وهي ترجمة الباحث ديفيد دي باسكوالي المتخصص في الفلسفة الإسلامية والقانون والفلسفة السياسية، ومهّد لها بدراسة قيمة، إذ نجده يستخلص فيها أنّ الفارابي -في كتابه هذا- فهم جيدا فن الجدل السقراطي، وحفظ هذا التقليد الأصيل في العلم اليوناني الذي كان على وشك الانقراض.(8)

ولقد تعرّف الدارسون الأكاديميون الغربيون على كتاب الفارابي "القياس" في نسخته الإنجليزية عام 2020 من خلال ترجمة للباحثة سلوى الشطي وعالم الرياضيات البريطاني ويلفيرد هودجز الذي أشفعها بدراسة وافية للكتاب مع مدخل خاص لعلم القياس ولفلسفة الفارابي وكتاباته.(9)

وثمة دراستان قيمتان للمنطق عند الفارابي، الأولى صادرة عام 2019 لمؤرخ الفلسفة ريكاردو ستروبينو تتبع فيها القياس المنطقي في "كتاب البرهان" للفارابي؛(10) والدراسة الثانية للباحث الكَندي تيرينس كليفن، وفيها يتعرض بدراسة نقدية لشرح الفارابي لكتاب "إيساغوجي" للفيلسوف اليوناني فرفوريوس.(11)

وفي مصنف كبير لدار نشر جامعة أوكسفورد عنوانه "النحو والبلاغة في العصور الوسطى: فنون اللغة والنظرية الأدبية من السنة 300 إلى 1475 ميلادية"، نجد تجميعا لمصادر النحو والبلاغة التي اعتُمِد عليها في العصور الوسطى لفهم الأدب واللغة، ويعرض الكتاب هذه المصادر في سياقاتها التاريخية والنظرية، مخصصا جزءا هاما للفارابي، نُوقشت فيه الترجمة التي قام بها هيرمانوس أليمانوس أواسط القرن الثالث عشر، الذي ترجم شرح الفارابي لكتاب البلاغة لأرسطو إلى اللغة اللاتينية، ويتضمن هذا الجزء إلى جانب النص المترجَم مدخلا تعرَّض فيه هيرمانوس إلى مدى تأثير كتاب أرسطو الأورغانون على المفاهيم التقليدية للنحو والبلاغة والمنطق، ويسوق صاحبا الكتاب فكرة مؤداها أن الخطابة والشعرية هي أيضا جزء من المنطق.(12)

وعام 2007، صدر باللغة الفرنسية كتاب "الفارابي: فيلسوف بغداد في القرن العاشر"، يتضمن مجموعة من الترجمات لأعمال الفارابي القصيرة وخاصة لأطروحاته الثلاث المختصرة حول موضوع الشعرية. والكتاب يعتبر الفارابي مؤسسا لمدرسة المنطق ببغداد من خلال دمجه مصادر الفلسفة اليونانية وتفسير القرآن والشعر العربي، وأنّ مشروعه الفكري مكنه من استيعاب ثقافات عديدة تجسدت في شخصيته بوصفه أديبا ورجلا صادقا وروحا عالمية. ومما يميز هذا الكتاب أيضا تضمنه مسردا موضوعيا ومصطلحيا بالإضافة إلى ملف تاريخي يُتيح مقارنة اللغة الفلسفية العربية للفارابي مع ترجمتها الفرنسية المقابلة لها في الصفحات ذاتها.(13)

وإذا انتقلنا إلى إسهام الفارابي في مجال الموسيقى وجدنا أن كتابه "كتاب الموسيقى الكبير" لا يزال يحظى بقدر هام من الدراسة الأكاديمية الجادة، أبرزها أطروحة الدكتوراه التي نشرتها جامعة هارفرد عام 2009 بعنوان "الآلات الموسيقية كمصدر للمعنى في الشعر والفلسفة العربية الكلاسيكية"(14)، وفيه تُدرس أفكار الفارابي الموسيقية بشكل مختلف عن سابقيه، ولا سيما نظريته بكون الموسيقى مشتقة من الممارسة الموسيقية وليست انعكاسا للبنية والترتيب الرياضي للكون، خلافا لما كان يعتقد به الكِندي وإخوان الصفا.

وثمة كتاب قيّم هو "ممارسة الأداء الموسيقي في أوائل العصر العباسي 132-320 هـ/750-932م"(15) لمؤلفه جورج ديمتري سوا، وهو كتاب صادر قبل الفترة التي يتتبعها هذا المقال، لكنّ وجبت الإشارة إليه، كونه فسح مجالا كبيرا للدراسات الفلسفية الغربية المعاصرة واضعا كتاب الفارابي حول الموسيقى في سياقه الثقافي والاجتماعي والفكري، حيث عزّزه المؤلف بفصل كامل عن نظرية الفارابي حول الأداء، كما فكّ شفرة الصيغ الإيقاعية العربية في الكتاب، معيدا تدوينها وفق النوتات الموسيقية الغربية.

ومع هذا كله لم ينل "كتاب الموسيقى الكبير" حظه بعدُ إلى قرّاء الإنجليزية في ترجمة إنجليزية كاملة، ما عدا بعض الترجمات الجزئية لبعض فصوله، وتعمل الفيلسوفة أليسون لايوين منذ عام 2020 على ترجمة كاملة للكتاب بالإنجليزية من المتوقع صدورها قريبا. أمَّا باللغة الفرنسية، فهناك ترجمة كاملة واحدة فقط للكتاب عملها البارون رودولف ديرلونجي عام 1930، وأُعيد طباعتها 2001.(16)

وتلقى أفكار الفارابي في الفلسفة والميتافيزيقيا قدرا هاما من الاهتمام، ففي عام 2012 صدر كتاب "الكون عند الفارابي: المنهج والبنية والتطور"(17) لمؤلفه الفيلسوف الكَندي داميان يانوس، يتعرض في ثناياه للمفاهيم الأساسية لعلم الكون عند الفارابي، مقدما تفسيرا جديدا لتطوره الفلسفي من خلال تحليل المصادر اليونانية والعربية ووضع سياق لحياته وفكره في الوسط الثقافي والفكري لعصره.

وتبقى الترجمة رافدا أساسيا للدراسات الفارابية المعاصرة في الغرب، فهي تضع في متناول الدارسين أعمال الفارابي التي كانت مترجمة حصرا إلى اللاتينية، وفي هذا الاتجاه رأى عمله "رسالة في العقل"(18)، وهو أحد أبرز رسائل الفارابي، النور من جديد مع صدور الترجمة الإنجليزية الكاملة له عام 2007 للمفكرين المتخصصين في الفلسفة والفكر العربيين جون ميغينيز، وديفيد ريزمان. وقبل هذه الترجمة بنحو 3 سنوات، نشر الباحث في جامعة فيينا جورج فالات كتابه باللغة الفرنسية "الفارابي ومدرسة الإسكندرية"(19)، الذي يعتبر حتى الآن أول دراسة لجميع كتابات الفارابي، وتأتي ردا على القراءة الباطنية لأعمال الفارابي التي اقترحها ليو شتراوس عام 1945 وتبناها تلامذته لاحقا. ويُظهر الكتاب ما يتميز به فكر الفارابي من تماسك ووحدة أثرت بعمق على ابن باجة وابن سينا وموسى بن ميمون وابن رشد.

وعلى كل حال فإنّ تلقي الفلاسفة المسلمين في الغرب، عموما، وفي مقدمتهم الفارابي، لم يكن بالأمر الهين، وما كان مرورهم إلى الدراسات الفلسفية الغربية القديمة أو الحديثة سلسا، وعن هذا الأمر يقول عبد الرحمن بدوي: "كان البابوات في القرن الثالث عشر الميلادي، أمثال أنوسنت الثالث وجرجوري التاسع وأربان الرابع، يطلبون من الفلسفة أن تقوم بالدفاع عن العقائد المسيحية ضد الفلسفة الإسلامية التي غزت الغرب في ذلك الحين، كما كانت الحال في جامعة باريس التي أُنشئت في غُرّة القرن الثالث عشر، وصدّق على لوائحها البابا سنة 1215".(20)

لقد ظل الفارابي على مدى ألف عام مضت ينبوعا فكريا متجددا بالإلهام، خالدا بأفكاره العلمية والفلسفية لمن يحسنون استنباط أسرارها، فسطّر اسمه ضمن عظماء الفلاسفة على مر التاريخ، وكان لمن أرادوا التفقُّه في الفلسفة اليونانية والفلسفة العربية الإسلامية مدرسة تتخطى رسالتها الأزمان.

الهوامش

  • [1] Ulrich Rudolph. “Abû Nasr al-Fârâbî”, in Philosophy in the Islamic World, (Volume 1: 8th-–10th Centuries), Ulrich Rudolph, Rotraud Hansberger & Peter Adamson (eds.), Leiden: Brill, 2017. pp. 526–654. 537–45
  • [2] Ibid,. p: 541
  • [3] Amor Cherni. Le recensement des sciences, Abu Nasr al- Farabi, AL BOURAQ, Paris (May 21, 2015).
  • [4] Alain Galonnier, (ed. and trans.). Le ‘De scientiis Alfarabii’ de Gérarde de Crémone: Contributions aux problèmes de l’acculturation au XIIe siècle. Étude introductive et édition critique, traduite et annotée, Turnhout: Brepols. 2016.
  • [5] Jakob Hans Josef Schneider (ed.). Dominicus Gundissalinus. [ca. 1150] (transl.). l-Fârâbî, Über die Wissenschaften (de scientiis), Freiburg: Herder. 2006.
  • [6] Charles Butterworth. Alfarabi, The Political Writings, Volume III: “The Book of Letters,” translated and annotated, with an introduction, plus a new Arabic text (Ithaca: Cornell University Press, 2020).
  • [7] Mauro Zonta. “Al-Fârâbî’s Long Commentary on Aristotle’s Categories in Hebrew and Arabic. A Critical Edition and English Translation of the Newly-found Fragments”, in Studies in Arabic and Islamic Culture, II, B. Abrahamov (ed.), Ramat-Gan: Bar-Ilan University Press. 2006, pp. 185–254.
  • [8] David M. Di Pasquale. Alfarabi’s Book of Dialectic (Kitâb Al-Jadal): On the Starting Point of Islamic Philosophy. Cambridge University Press. July 2021.
  • [9] Saloua Chatti, and Wilfrid Hodges (trans.). Al-Farabi, Syllogism: An Abdrigement of Aristotle’s Prior Analytics, London: Bloomsbury. (September 3, 2020).
  • [10] Riccardo Strobino. “Varieties of Demonstration in Alfarabi,” History & Philosophy of Logic, 40 (1): 22–41. 2019.
  • [11] Terrence F. Kleven. “Alfarabi’s Commentary on Porphyry’s Isagoge (Kitab Isaguji),” Schede Medievali, 51: 41–52. 2013.
  • [12] Rita Copeland, Ineke Sluiter. Medieval Grammar and Rhetoric: Language Arts and Literary Theory, AD 300 -1475, Oxford University Press, 2012.
  • [13] Stéphane Diebler (trans). al-Fârâbî, Philosopher à Bagdad au Xe siècle, introduction by Ali Benmakhlouf, glossary by Pauline Koetschet, Paris: Seuil. 2007.
  • [14] Yaron Klein. Musical Instruments as Objects of Meaning in Classical Arabic Poetry and Philosophy. Harvard University, (ProQuest LLC, August 2009).
  • [15] George Sawa. Music Performance Practice in the Early ʻAbbāsid Era 132-320 A.H./750-932 A.D. Pontifical Institute of Mediaeval Studies. (Belgium,1989).
  • [16] Baron Rodolphe d’Erlanger. La musique arabe. II: Al-Farabi. (Paul Geuthner, 1930).
  • [17] Damien Janos. Method, Structure, and Development in Al-Fārābī’s Cosmology. Brill (March 2, 2012).
  • [18] Jon McGinnis, David C. Reisman. Classical Arabic Philosophy: An Anthology of Sources. Hackett Publishing Company, Inc.; UK ed. edition (March 15, 2007)
  • [19] Philippe Vallat.  Al Farabi Et l’Ecole d’Alexandrie (Etudes Musulmanes). Librarie Philosophique J. Vrin; VRIN edition (December 31, 2004).
  • [20] عبد الرحمن بدوي، ربيع الفكر اليوناني، سلسلة الينابيع، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة. الطبعة الثالثة، ص: 12.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.