شعار قسم مدونات

النفاق السياسي في ملفي "روسيا وإسرائيل"

حدود وثمن التنسيق بين روسيا وإسرائيل في سوريا؟
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (يمين) ورئيس وزراء إشسرائيل الأسبق بنيامين نتنياهو (الجزيرة)

يشير التعريف العام لمصطلح "النفاق السياسي" إلى حالة الاختلاف في المواقف المُتبنّاة وتلك المعلنة لشخصٍ ما، حيث يشير بيتر فوريا في تعريفه للمصطلح بأنه "التناقض في السلوكيات الشخصية للفرد ومعتقداته المعلنة علنا"[1]. ولعلّ صور تطبيق مصطلح النفاق السياسي أكثر من أن تُحصى، نظراً لحالة ازدواجية المعايير التي يتبناها المجتمع الدولي في تعاطيه مع كثيرٍ من القضايا الدولية في الماضي والحاضر.

وفي هذا المقال، سأحاول استحضار أزمة النفاق السياسي التي وقع فيها المجتمع الدولي بكياناته المختلفة في تعاطيه مع الأزمة الروسية الأوكرانية، ومقارنتها مع الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وذلك في عددٍ من المجالات المختلفة التي بدا فيها تطبيق مبدأ النفاق السياسي واضحاً وجليّاً.

أولا: القانون الدولي ومبدأ الدفاع عن النفس

منذ اليوم الأول للهجوم العسكري الروسي على الأراضي الأوكرانية، تسارعت دعوات التنديد الدولي ضد روسيا لوقف هجماتها، حيث أدان كلٌ من الأمم المتحدة ومجلس الأمن والاتحاد الأوروبي والرئيس الأميركي الهجمات الروسية على أوكرانيا. ثم تزايدت الدعوات الأوكرانية للمجتمع الدولي لمعاقبة روسيا ووقف هجومها العسكري. وعلى إثر ذلك، بدأ عددٌ من الدول الأوروبية إرسال شحنات الأسلحة إلى أوكرانيا لمواجهة القوات الروسية المتوغلة في الأراضي الأوكرانية، وتضمنت تلك الأسلحة أنواعا مختلفة من مضادات الطائرات والدبابات والعتاد المتنوع، وتطور الأمر فيما بعد ليُعلن عددٌ من الدول الغربية نيتها فتح باب التطوع للتجنيد والمشاركة في القتال ضد عناصر الجيش الروسي في أوكرانيا.

إذن، اتضح من خلال السابق أن الدولة المُحتلة -وهي أوكرانيا- لها الحقّ في مواجهة روسيا والدفاع عن أرضها كما كَفِلَ لها ذلك القانون الدولي. حيث تنص المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة على أنه "ليس في هذا الميثاق ما يُخِلُّ بالحقّ الطبيعي للدفاع الجماعي أو الفردي عن النفس إذا وقع هجوم مسلح ضدّ عضو من أعضاء الأمم المتحدة، إلى أن يتخذ مجلس الأمن الإجراءات اللازمة للحفاظ على السلم والأمن الدوليين".

بالإضافة إلى ذلك، فرض المجتمع الدولي عقوباتٍ بالجملة على روسيا، حيث شملت تلك العقوبات القطاعات الحيوية في الدولة وعلى رأسها القطاع المالي والمصرفي، وتجميد التعامل مع البنوك الروسية، وإخراج روسيا من نظام سويفت المالي، ومنع حركة الطيران من وإلى الأجواء الروسية.

وعلى الجانب الآخر، تفرض إسرائيل -وهي دولةٌ عضو في الأمم المتحدة- احتلالاً للأراضي الفلسطينية منذ ما يزيد على 70 عاماً، مارست خلالها إسرائيل شتّى أنواع القتل والتدمير والترهيب والاعتقال والحروب المختلفة ضد المدنيين العُزل، في ظلّ صمتٍ دوليٍّ اكتفى بالإدانة في كل مرّة، فضلا عن سياسة القتل خارج القانون، والاعتقال التعسفي والإداري لآلاف الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، وتهجير السكان الأصليّين من منازلهم من مناطق يُفترض أنها مُحتلة بحكم القانون الدولي ويجب عدم المساس بها.

وإزاء هذه الحالة، يقوم الفلسطينيون -في محاولاتٍ يائسةٍ في كلّ مرة- بمحاولة مواجهة إسرائيل بأدواتٍ بدائيةٍ حيناً، ووسائل عسكريةٍ مصنّعةٍ محلياً أحياناً أخرى، على أملٍ منهم فيما يعتقدون أنه ذلك الحقّ الذي كفلَهُ لهم نفس الميثاق الأممي رقم 51 في حقّ الشعوب في الدفاع عن أنفسهم في حالة تعرضهم لأي عدوانٍ خارجيّ. إلا أن حالة النفاق السياسي للمجتمع الدولي لم ترحم الفلسطينيين في حالتهم هذه، حيث ساوى مُعِدّو ذلك الميثاقُ بين الضحية والجلاد، إيماناً منهم بأن قاعدة الدفاع عن النفس لا تشمل دولاً مثل فلسطين في صراعها مع إسرائيل. بالإضافة إلى ذلك، أصدرت الأمم المتحدة ومجلس الأمن عشرات القرارات المتعلقة بشأن فلسطين، أبرزها[2]:

  • قرار 194 لسنة 1948: حق عودة اللاجئين الفلسطينيين لديارهم.
  • قرار 3236 لسنة 1974: اعترف القرار بحق الفلسطينيين في السيادة على أراضيهم.
  • قرار 2334 لسنة 2016: إدانة المستوطنات الإسرائيلية.
  • قرار 1397 لسنة 2002: إنهاء العنف والتأكيد على رؤية حل الدولتين، إسرائيل وفلسطين.
  • قرار 608 لسنة 1988: مطالبة إسرائيل بالتوقف عن ترحيل الفلسطينيين.
  • قرار 476 لسنة 1908: عدم شرعية التصرفات الإسرائيلية لتغيير وضع القدس ومعالمها.
  • قرار 452 لسنة 1979: المستوطنات في الأراضي المحتلة لا تحمل أي صفة قانونية، وهي غير شرعية.
  • قرار 242 سنة 1967: دعا إلى انسحاب إسرائيل من كامل الأراضي التي احتلتها عام 1967.

حيث يُلاحَظُ من كلّ القرارات التي تمّ إصدارها طوال العقود السابقة: عدم الالتزام الإسرائيلي بها، وأن إسرائيل غير مُلزمةٌ بتنفيذها. حيث استخدمت الولايات المتحدة -الحليف الإستراتيجي لإسرائيل- في كل مرةٍ "الفيتو" لمنع إدانة إسرائيل أمام مؤسسات المجتمع الدولي، وهو ما ساعدها في مواصلة سياساتها وإجراءاتها العدوانية تجاه المدنيين الفلسطينيين في كافة أماكن تواجدهم في الأراضي المحتلة. ولعلّ جولات العدوان الإسرائيلي الأربع ضد الفلسطينيين في قطاع غزة أعوام 2009 و2012 و2014 و2021، خير دليلٍ على تطبيق مبدأ النفاق السياسي وازدواجية المعايير بالنسبة للمجتمع الدولي.

حيث شهدت جولات التصعيد مقتل آلاف الفلسطينيين وإصابة عشرات آلافٍ آخرين، بالإضافة إلى تهجير مئات الآلاف من العائلات نتيجة فقدان منازلهم، وهو ما جعلهم يعانون لسنواتٍ طويلة حَرّ الصيف وبرد الشتاء في خِيَامِ الّلجوءِ أو "الكرفانات" المتنقلة، في الوقت الذي أعلن فيه عددٌ من الدول الأوروبية استقبال ملايين الأوكرانيين الهاربين من جحيم الضربات الروسية ضد بلادهم، وتقديم كلّ سبلِ الراحة والأمان لهم لحين انتهاء الحملة العسكرية الروسية.

فأثناء جولات العدوان الإسرائيلي على المدنيين الفلسطينيين في غزة، قامت إسرائيل حتّى بمهاجمة المؤسسات الدولية الحكومية وغير الحكومية، وخاصةً مؤسسات الأمم المتحدة ومدارسها ومقراتها المدنية. وليس بعيداً عن غزة، تقوم إسرائيل من خلال مستوطنيها المقيمين بشكلٍ غير قانوني على الأراضي الفلسطينية المحتلة بحُكمِ القانون الدولي، بمهاجمة الفلسطينيين في القدس بهدف إخراجهم من المدينة وطردهم منها بشكلٍ تعسفيّ، وأحياناً أخرى تُسلّمهم إخطارات هدمٍ لمنازلهم بسبب عدم حصولهم على تراخيص ملكية بيوتهم التي ورثوها عن أجدادهم لمئات السنين، أي قبل قيام دولة إسرائيل عام 1948.

ثانيا: المحتوى الإعلامي والتكنولوجيا

برزت الحرب الروسية على أوكرانيا كمثالٍ آخر على حالة النفاق السياسي التي يعيشها المجتمع الدولي، ولكن هذه المرة من الناحية التكنولوجية. حيث طلبت أوكرانيا -ثاني أيام العملية العسكرية الروسية- شركةَ آبل بإيقاف خدمات متجر التطبيقات ومنتجاته عن المستخدمين في روسيا، كما قامت شركات فيسبوك وغوغل ونتفليكس ويوتيوب أيضا بتعليق خدماتها في روسيا، كما أعلن الاتحاد الأوروبي عن تقييد وصول وسائل الإعلام الروسية إلى سائر الدول الأوروبية، حيث وافق وزراء خارجية دول الاتحاد على حظر قناة "روسيا اليوم" ووكالة "سبوتنيك" الروسيتين في دول الاتحاد، كما وافق الملياردير الأميركي إيلون ماسك على تزويد أوكرانيا بخدمة الإنترنت الفضائي عن طريق تقنية "ستار لينك" وذلك بعد ساعاتٍ فقط من طلبٍ أوكرانيٍ رسمي إلى ماسك.

وعلى الجانب الآخر، برزت إسرائيل كقوة احتلالٍ تمنع عن الفلسطينيين كلّ مقومات الحياة. حيث تفرض سيطرتها وهيمنتها على كافة وسائل التواصل الاجتماعي، وهي تسخّر جهدها وعلاقاتها لمحاربة المحتوى الإعلامي الفلسطيني، ورفدِ المجتمع الدولي بروايةٍ أخرى مضلّلة تُبرّرُ فيها سياساتها ضد قتل الفلسطينيين واعتقالهم وتهجيرهم. حيث ترتبط إسرائيل بعلاقات وطيدة مع المديرين التنفيذيين لمؤسسات التواصل الاجتماعي، وأبرزها فيسبوك وتويتر ويوتيوب. بالإضافة إلى ذلك، برزت منظمة مقاطعة إسرائيل المعروفة باسم "بي دي إس" (BDS) كنوعٍ من مساندة الفلسطينيين، وذلك من خلال فرض عقوبات اقتصادية وثقافية ورياضية على الممارسات والسياسات الإسرائيلية بحق المدنيين الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ثم ما لبث أن قامت الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية بمحاربة هذه المنظمة وتجريمها، كنوعٍ من الوقوف إلى جانب إسرائيل ومحاربة الحقوق الفلسطينية في الحرية وتقرير المصير وتطبيق قرارات المجتمع الدولي.

ثالثا: القطاع الرياضي

على إثر الهجمات الروسية المتواصلة ضد أوكرانيا، تتواصل الجهود الدولية في كبحِ جماح روسيا، وكانت إحدى هذه الوسائل هي محاربة روسيا رياضياً. حيث قرر الاتحادان الدولي والأوروبي لكرة القدم، تعليق مشاركة جميع الأندية والمنتخبات الروسية في البطولات القارية والدولية حتى إشعار آخر، بسبب الحرب على أوكرانيا. وقرر الفيفا استبعاد منتخب روسيا من التصفيات الأوروبية المؤهلة لكأس العالم 2022 في قطر، والمقرر أن تختتم خلال مارس/آذار الجاري. بينما أعلن الاتحاد الدولي للريشة الطائرة إلغاء جميع بطولاته المقررة في روسيا وروسيا البيضاء، في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا.

كما قررت اللجنة الأولمبية الدولية سحب الوسام الأولمبي من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بسبب الحرب في أوكرانيا. واتخذ الاتحاد الأوروبي قرارا أيضا، بإنهاء شراكته مع شركة غازبروم الروسية في كافة المسابقات، خلال الفترة المقبلة. كما فرضت الاتحادات الدولية للتجديف والتزلج والكرة الطائرة والرماية حظرا على رياضيي ومسؤولي روسيا وبيلاروسيا من البطولات الدولية، بأثر فوري وحتى إشعار آخر. وأوقف الاتحاد الدولي للدراجات فرق روسيا وبيلاروسيا عن المشاركة في كل البطولات، وسحب كل سباقاته المقررة في روسيا وبيلاروسيا من جدول 2022. وكنوعٍ من رسائل الدعم لأوكرانيا، ضجّت أعدادٌ كبيرة من الملاعب الأوروبية بالأعلام الأوكرانية واللافتات الداعية إلى وقف الحرب وفرض العقوبات على روسيا.

وعلى النقيض، لم يتمكن المجتمع الدولي من معاقبة إسرائيل رياضيا أو فرض عزلةٍ رياضيةٍ على أنديتها وقطاعاتها الرياضية المختلفة، بل سمحَ لها بالمشاركة في البطولات الرياضية الإقليمية والقارية والدولية بمنتهى الحرية، بل شارك الرياضيون الإسرائيليون في مختلف البطولات التي أقيمت في بعض دول الخليج العربي، خصوصاً بعد موجات التطبيع العربي مع إسرائيل.

كما تعمل إسرائيل بشكلٍ كبيرٍ على تدميرِ القطاع الرياضي الفلسطيني، وذلك من خلال سلسلة إجراءات تكمن في منعِ سفرِ الأندية الفلسطينية وتنقلها ما بين الضفة الغربية وقطاع غزة لأداء بطولات الدوري المختلفة. بل تعدّى ذلك إلى قيام إسرائيل باعتقال عددٍ من الرياضيين الفلسطينيين، مما ساهم في فقدانهم فرص المشاركة مع أنديتهم. إضافة إلى ذلك، قامت إسرائيل خلال عدوانها على غزة عام 2014 بتدمير ما يزيد على 30 مبنى رياضيا فلسطينيا، ومن بينها مقر اللجنة الأولمبية الفلسطينية في مدينة غزة. وخلال عدوانها الأخير عام 2021 على غزة، قامت إسرائيل بتدمير ملعب فلسطين الرئيسي في غزة، حيث تُقامُ فيه معظم مباريات الدوري الفلسطيني الممتاز، وقتلت أيضاً 10 رياضيين فلسطينيين بدمٍ باردٍ من دون سابق إنذار.

وخلال فترات العدوان الإسرائيلي المختلفة على غزة، مارسَ المجتمع الدولي الرياضي سياسةً سلبيةً ضد كلّ من يبدي تعاطفاً أو وقوفاً إلى جانب الفلسطينيين، بحجة فصل الرياضة عن الدين والسياسة. ولعلّ أبرز حالات النفاق الرياضي ضد الفلسطينيين كانت في عام 2016، حين فتح الاتحاد الأوروبي تحقيقاً بسبب رفع جماهير نادي سيلتك الأسكتلندي أعلام فلسطين أثناء مباراة فريقهم ضد فريق هابويل بئر السبع الإسرائيلي في دوري أبطال أوروبا، حيث استنكر نادي سيلتك الأسكتلندي تصرف جماهيره برفع أعلام فلسطين.

وفي موقفٍ آخر يكشف ازدواجية المعايير، قام الاتحاد الدولي للجودو بتعليق عضوية الرئيس الروسي بسبب الهجمات الروسية ضد أوكرانيا. وفي وقتٍ سابقٍ، قامت اللجنة الأولمبية الدولية بإيقاف اللاعب الجزائري فتحي نورين 10 أعوام، وذلك عقِبَ انسحابه أمام لاعبٍ إسرائيليّ في أولمبياد طوكيو الأخيرة.

ختاماً، كلّ ما سبق ذكره يكشف بشكلٍ واضحٍ لا شكّ فيه حالة النفاق السياسي التي يتبناها المجتمع الدولي، وسياسة ازدواجية المعايير في تعاطيه مع الملفات والمواضيع الدولية، بما يؤكدّ أن المجتمع الدولي يقفُ بشكلٍ راسخٍ أمام الحقّ، ولكن بالشكل الذي يودّ فيه أن يتبنّاه ويخدم مصالحه العليا.

 

مراجع

  • [1] Furia, P. A. (2009). Democratic citizenship and the hypocrisy of leaders. Polity, 41, 113–133.
  • [2] Palestine Liberation Organization – Department of Human Rights and Civil Society

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.