شعار قسم مدونات

قوارير متصدعة.. مهنةٌ انتُزِعتْ بشقِ الأنفاس

يحرص الدنماركيون على مشاركة الأسرة بعض الوقت، والاسترخاء يوميا بعيدا عن المهام المتعددة بأشياء بسيطة، قد يكون ذلك بالمشي في الحديقة،
أختي كانت كأمي تنتظرُ ابتسامةً أبي لترقصَ فرحاً وتحاول أن ترضيه بشتى الطرق (مواقع التواصل)

ما أسوأَ اللامبالاة الكامنة في الزواج، أن ينتظر كلا الزوجين، أو أحدهما أن يسير هذا الزواج من تلقاء نفسه، أو أن يسير به قطار الزمن عبر كل محطاته، يتصدع من جهة ويصدأ من جهة، حتى يصل لنهايته، بنزول كلا الزوجين معاً، أو كل واحدٍ منهما على حدةٍ، أن يتزوج أحدهما الآخر لأجل ماله فقط، هذا كان حالُ أبي، الذي نظر لزواجه من أمي على أنه استثمارٌ ناجح وقريب المدى،

ولكن رياح الزمن عاكست سُفنه، أبي الذي تزوج من أمي لأجل أموالِ والدها العجوز، لم يمتْ جدي كما كان يتوقع أبي، فقد وضع تقديراً لوفاة وموت جدي، كنتُ أسمعه يقول دونما خجلٍ أو ترددٍ أمام أمي، وأمامنا جميعاً "سيصمد هذا الخرف لـ 5 سنواتٍ على الأكثر، 5 سنوات بالشقاء مع هذه المرأة وأبنائها، مقابل العمر كله بالترف، والرفاهية، لا تُعدُ شيئاً" ولكن سنوات جدي طالت، وأيامه امتدت، كانت كمسبحة ألفية، تتساقط حباتها الهوينى، وأبي ينتظر بضجر سقوطها.

مضتْ السنوات الخمس، وكان عمري آنذاك 6 سنوات، يكبرني أخي محمد بسنةٍ واحدة، وتصغرني أختي نور بسنةٍ فقط، ألم نكن في حسابات أبي مع سنواته المرتقبة، ستمر الخمس أو ما دونها، ونحن الصغار أين سنذهب، أيتركنا نحن الصغار بلا أب، وأمي بلا زوج!

أمي التي أحبت أبي أكثر من كلِ شيءٍ، وأي شخص، أكثر منا نحن أطفالها، لا أقول إنها لم تحبنا، ولكن حبها لأبي أغشى عينيها، فتعامت عن أفعال أبي وتغاضتْ، كنا نحن الكومبارس الصامت بجوار اللاعب الرئيسي (أبي). في أيام نشوةِ أبي وسعادته، كانت تصُفُنا حول المائدة كألعاب الخزف الصينية! متلاصقين بجوار بعضنا ساكنين بلا حراك، نور كانت كأمي تنتظرُ ابتسامةً من أبي لترقصَ فرحاً، كانت تحاول أن ترضيه، وضعت العلة بنا وبي بالتحديد لأني كنت متمردةً دائماً، ظنت أنها حين تُطيعه، وتركض لخدمته كأمي سيرضى عليها، ولكن الصحيح في هذه الحكاية أن أبي كان يُسرُ فقط حين حصوله على المالِ من عملنا نحنُ الصغار، كان يتكرم على أمي بجعلنا نجلس معه حول المائدة، يأكل هو بشراهة ويتناثرُ الطعام من فمه على المائدة، أما نحن فكنا ننتظر أن يضطجع إلى الخلف، ويظهر بطنه منتفخًا إلى الأمام لنأكل. كنتُ أرفض تناول الطعام، محمد أخي كان يأكلُ لحاجة العيش، أمي تنسى الطعامَ والشراب من سعادتها، فمعدتها امتلأت بالبهجة.

ثم نهربُ لفراشنا قبل أن ينتابهُ الغضب من أي شيء، حديثٌ لربما لا يوافق مزاجه، أو من تذكُره لأنفاس جدي التي ما زالت تصعد وتهبط.

نور كانت تجلس على فراشها تستذكرُ لحظاتِ السعادة العائلية التي عاشتها للتو، حين أتذكرُ وجهها في تلك اللحظات أشعر وكأنها كانت تعيش في عالمٍ وردي اللون، محمد كان يقضي وقته بافتعال المشاكل الصغيرة معنا، ويحلم بمشاكساتِ الغد التي سيقوم بها.

أما عني فكنتُ أضيء المصباح الصغير تحت غطائي؛ كي أدرسَ لاختباراتي، أو لحلِ واجباتي المدرسية، أكثرُ لحظات اليوم خوفاً وإرهاقاً، أن يكتشف أبي الضوء الخافت، فيقوم بتمزيق كتبي، وضربي، وسحلي من شعري، وقد حصل هذا كثيراً، كنتُ أعانده، وأصرخ بصوتٍ عالٍ بأني سأكمل دراستي، وأصبح طبيبةً جيدةً في المستقبل.

كنت بالأكثر أخبر نفسي بهذا؛ حتى لا تضعُفَ أو تتراجع، أخبرها بأني أخرجتُ خوفي من داخلي، وأخذتُ مقابله صفعًا وضرباً، أغذي عزيمتي وأقويها من حنقي على أبي؛ صبراً على مرارة أيامنا، واستعانةً عليها.

أما عن أمي في هذا الحين، فكانت تحاول التفريق بيننا لا تريد أخذ طرفٍ أو جانب في الموضوع، تخافُ أن يفهمها أبي بشكل خاطئ، وأنا المتيقنة من أن أمي لم تفهم نفسها البتة، أما أخي فكان يقفز على ظهر أبي يتشبثُ به من الخلف كي يعيقه عن ضربي، وأختي تبكي في الزاوية، هذا كان دورها في كل الجولات، تبكي في الزاوية تُضيف جواً درامياً على الحاصل معنا.

أتعلمون كيف تكون العائلة الفقيرة، والضعيفة والمعنفَة، والتي تسري أخبارها كل يوم في القرية، كنا نحن تلك العائلة، أتعرفون كيف يكون شعور الذي لا يرضى الظلم على غيره، كنت أنا تلك المتمردة والغاضبة دوماً من الجَوْر، فوقعت في بؤرته.

أتميز كالحمم البركانية من غيظي، وخوفي، وألمي، وضعفي، وقوتي، وجسدي الصغير هذا، كلما عنف أبي أختي أو أمي كنت أضع نفسي في الوسط، أقف درعاً يتلقى الصفعاتِ، والركلاتِ بجسدي، فألقى من صنوف العذابِ ما ألقاه، يصبحُ جسدي كالأرجوحة يُلقى في أي مكان، تنعدم الجاذبية فأكون مقابلة أبي، وأمي أو أختي خلفي فأراني في الأرض واقعة عند باب الغرفة كيف انتقلت هناك لا أدري، وأعود مجددًا وأطير تارةً أخرى إلى أن أقعى أنا أو يقعى هو!

في بعض الأحيان كنت أبكي أنا أيضاً لما أعانيه، وأتحمله في هذا البيت، ولكني أتوقف حين أرى ندبها، لم تترك لي فرصةً للبكاء، فأضحك من حالها، ثم تضحك هي ووجها مبتلٌ بالدموع.

لم يكن يُخلصنا من يديه سوى الجيران، جارتنا (فضيلة) وزوجها النجارُ حسن، يتبادل أبي وفضيلة نظرةً أفهم كنهها، ولكني أتجاهلها، وأتحاشى التفكير بهذا، يأخذ عمي حسن أبي، ويبدأُ بتهدئته وكأنه المغدور في هذه الحكاية، وتجلس فضيلة مع أمي تُمسدُ بيديها شعر أمي الذي تبعثرَ أثر هذه المشاجرة، وتمسح دمع أختي وتعطيها قطعة حلوى من التي تحملها بجيوبها دائماً، وكأنها وضِعَت لأجل هذه الأيام، ثم تخبرني أن أدرأ المشاكل وأجيئ لأدرس أمام بيتها.

تُوفيَ جدي، ولم يحصلْ أبي على قرشٍ واحدٍ، ولا حتى أمي، فطلقَ أبي أمي، وتزوج من فضيلة التي بدورها تطلقت من زوجها بعدما افتعلت الكثير من المشاكل؛ فطلقها وحرمها رؤية ابنها.

كان الحزن يقطر من قلوبنا، ليس على رحيل أبي، ولكن على الأمل في ندمه عن كل ما جعلنا نعيشه، على الدواء الذي سيكون الزمن كفيلاً بصنعه، عن لين قلبنا لشيخوخة أبي، ورحمتنا بضعفه وهرمه، كنا ننتظر أن تعالجه السنين وهو بيننا، فنستطيعَ أن نغفرَ له، ولكنه حرمنا حتى هذا الأمل البائس واليائس، أذكر أن أمي قالت لي وأختي: لا تتزوجا رجلا جميلًا، ولا بهيَ الطلعة حتى لا تخطفه النساء الأخريات منكن، وتبقين هكذا بالوسط عارياتٍ بلا رجل!

أمي هاجمت زوجته الأخرى، وألقت كل اللوم عليها بأنها هي من خطفت زوجها وشريك حياتها منها، بينما حامى أبي عن زوجته الصغيرة، ولكني كنت مطمئنةً في هذه اللحظة، لأن أبي لن يبرح أمي ضرباً وهو المفضوح على رؤوس الأشهاد وفي القرية كلها، فقط اكتفى بدفعها حتى ارتطمت بالحائط، ووقعت مغشيًا عليها، يقول إنه أحبها، وإن القلب ليس ملك يمين صاحبه، بل إن القلب يستعبد الروح والجسد، فيجرهما معه إلى محل راحته.

كان أبي حنوناً على فضيلة، يحضنها ويمسح دموعها حين تحزن، يبتسم لأقل كلمة تقولها، يكفي أن ينظر في وجها لتلمعَ عينيه، أو أن تتلاقى أعينهما ببعض فيشرق وجهه، كان يبذل جهده وأكثر من ذلك فقط لتكون سعيدة، فضيلة التي كانت تمسح دموع أمي حين يضربها أبي، تضيء لأجلي ضوئها، حين يمنعني أبي القراءة، وتغطيني بسترتها حين يشتد البرد وأنا أراجع دروسي بالخارج، تنزعها عن جسدها وتلفني بها.

في ليلةٍ صيفية، عاد أبي سُرت أمي أيما سرور، تنظر نظراتٍ عجيبة ما بين فرحٍ وتلهف، يقولُ أبي: فضيلة مريضة وتريد رؤية ابنها، ومع هذا بقيت أمي مبتسمة، أظن أن طلته ورؤية وجهه كانت كفيلة بإسعادها!

حمل أبي الصغيرَ لأمه فضيلة، وسمعت أمي صوت أبي وسط عراكه مع أهالي القرية، وأتت تركض بشعرها المنكوش، الذي أشبعته تنتيفاً حزنًا على زوجها، كانت تركض تشد بمعطفه، كي تخبئه في بيتنا من الضرب، وكان هو يُبعُدها عنه؛ ظناً منه أنها تريد سحبه ليستقر معنا، فأوقعها أرضاً، وأُدمِيتْ يداها، اعتادت على أن تكون الأضحية النطيحة، والمتردية، كانت تتعلق بساقه، وتشده كي لا يذهب، كم شعرت بالقهر والغضب وأصابتني نوبة من الضحك اختلطت بالدموع، والناس حولنا ينظرون ما بين حزن ودهشةٍ واستحقار، سحبتُ أمي وجررتها للبيت بمساعدة الناس، وهي تصرخ باسم زوجها.

لماذا أحبته كثيراً ما هذا الهوس والتعلق؟!، ربما هو الغنيمة التي ظنت نفسها ظفرت بها من الدنيا، كانت الحقائق واضحة تُضرِبُ وجهها، ولكنها ترفض الرؤية رغم أنها جلية، وضعت أصابعها في أذنيها وكذلك كانت تفعل أختي، تغطي وجهها بأصابعها كي لا ترى، لم تكن تحتاج لسد عينيها أو أذنيها كي لا ترى، عمياء بكماء صماء كانت أمي.

كنت ومازلتُ حزينة على أمي تلك الوردة المحْنِيُّ ساقها، والتي لم تبصر الشمس يومًا؛ لتكاثرَ الحشائش غير النافعة والضارة حولها، وهي أيضا لم تحارب ولم ترد أن ترفع رأسها ولو قليلاً؛ خوفًا من أن تفقد ما لا تملكه، خوفاً من أخذ مكانها، وقطفها منه، لا تدري فلربما لو رفعت رأسها لأصبحت في مكانٍ آخر، سعيدة بهيئتها الجميلة.

كانت أمي امرأة ضعيفة جبانة غير واثقة من نفسها، رأت هيئة أبي وحسنَ وجهه كثيرًا عليها، لم تعلم بأن قلبها كنز أغلى من أي قناعٍ جميل، يخفي خلفه وجهاً شيطانياً بشعاً.

ثم عاد مجدداً بعد سنوات يطلبُ من أمي المال لتقرضهُ إياه، فقمتُ بطرده وقلت له لا تعد هنا مجدداً، فهذا المال هو لملابسي الجامعية التي بدأتُ بالتحضر لها، ولكن بعد تلك الليلة كنت أنا من خرج بعد أبي ولم نعد نحن الاثنان، بعدما طردتني أمي لأني مشؤومة طردت رجلها، وكي لا تنقطع قدمه عن البيت، لربما يتردد مني!

مرت سنواتٌ، وطُوِيَت دفاترٌ وكتب، ولكن الحسابات لم تُغلق، أصبحت طبيبةَ أطفال، وأخي محمد أصبح محاسباً، أما عن نور فقد أصبحت أماً صالحةً لـ 3 صغارٍ تغمُرُهم بالحنان والمحبة، ابتعتُ منزلاً لي ولأمي في المدينة، بعيداً عن شوارع الماضي وجراحاته، ولكن أبي عاد ليظهرَ في حياتي مجددًا، يُراقب طريقي صباحاً، ومساءً طمعاً في كلمة ألقيها له، بعدما كنت أنا من أشاهده وصغاره من فضيلة، يُلاعبهم ويمازحهم، بل يضعهم في حضنه، ويقبلهم وأسأل لماذا، لماذا هم، وليس نحن؟!!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.