شعار قسم مدونات

تعويم الجنيه.. رهان على "إعادة اختراع العجلة"

الاحتياطي الدولاري كان اول ضحايا التفريعة واضطر الحكومة للتعويم فتأثرت معيشة المصريين سلباً. (تصوير خاص للبنك المركزي وللدولار مع الجنيه ـ أرشيف)
الأولوية ستكون لتوفير برامج الحماية الاجتماعية وتوسيع قاعدتها بتدبير 2.7 مليار جنيه لضم 450 ألف أسرة جديدة للمستفيدين من صندوق "تكافل وكرامة" (الجزيرة)

يقولون:

إذا أردت أن تحصل على نتائج مختلفة،

فلا بد أن تقوم بالأمور بطريقة مختلفة..

يتساءل كثيرون إن كانت الأمور تجري في دولاب العمل الحكومي في مصر بالحكمة المطلوبة على قدم المساواة مع الخبرة لإدراك المغزى من هذه النصيحة.

فبطريقة أو بأخرى، كرّر البنك المركزي سيناريو 2016  "المؤلم"، حين أعلن تعويم الجنيه، كبندٍ أولي على أجندة برنامج "إصلاح اقتصادي"، أفقده نحو نصف قيمته الشرائية أمام الدولار، وتوالت بنوده في مراكمة إجراءات التقشّف، برفع الدعم عن السلع والخدمات الأساسية، وفقا لتوصيات صندوق النقد الدولي التي أقر السيسي بقسوتها على المصريين، ثم هاهو، مرة أخرى، يتخذ خطوات لتحريك سعر الدولار، ضمن خطوات يرجِّح مسؤولون أن تكون مقدّمة لمتطلبات برنامج جديد مع الصندوق، تزامنا مع إعادة هيكلة مشروع الموازنة العامة للسنة المالية 2022-2023، بما يتسق مع مستجدات الأزمة العالمية نتيجة الحرب في أوكرانيا، وما تتطلبه من التقشف في بعض البنود.

ورغم تأكيد مجلس الوزراء أن الأولوية ستكون لتوفير برامج الحماية الاجتماعية وتوسيع قاعدتها بتدبير 2.7 مليار جنيه لضم 450 ألف أسرة جديدة للمستفيدين من صندوق "تكافل وكرامة"، وتخصيص 190.5 مليار جنيه للهيئة القومية للتأمين الاجتماعي لصرف الزيادة السنوية في قيمة المعاشات بنسبة 13%، فإن الأطر الرئيسية للموازنة ما زال يتصدّرها مراجعة منظومة الدعم، وتوسيع القاعدة الضريبية، إلى جانب الشعار الجديد الذي رفعه وزير المالية محمد معيط "لتعظيم الاستفادة من أصول الدولة".

اليوم، وبينما تتكرّر أيضًا الأجواء، وتشبه تلك التي شهدها سوق الصرف فترة ما قبلَ تعويم الجنيه، يأخذ الحذر من محاولات الحكومة توفير الواردات الدولارية بُعدا آخر، يربط واقع الأزمة المعيشية الحالية بمستقبل الاقتصاد المصري ومقدّراته، مع اللجوء لخيارات صعبة، لا تكتفي بمتطلبات برنامج تقشفي جديد لصندوق النقد، وإنما تتعدى إلى التوسّع في بيع أصول الدولة، تحت شعار "تعظيم الاستفادة"، والتي ظهرت، فور تحريك سعر الدولار، باتفاق صندوق القابضة أبو ظبي السيادي على شراء حصص مملوكة للدولة في 5 شركات رائدة في سوق الأوراق المالية المصرية، ضمن المنصة الاستثمارية التي أعلن عنها في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، مع الإمارات، وبقيمة تصل إلى 20 مليارَ دولار، للاستثمار في مجموعة متنوعة من القطاعات الواعدة بالاستثمار.

هي نفسها إذًا طريقة العمل، تعويم للعملة واقتراض من الخارج بشرط فرض إجراءات التقشّف والتوسّع في قاعدة الضرائب، وإن أضيف لها هذه المرة بيع أصول الدولة لتوفير السيولة الدولارية، فلماذا يصرّ النظام عليها ويرى أنها الطريقة المثلى للتعامل مع أزمة التضخّم العالمية؟

كثيرة هي التحليلات التي استفاضت في مسألة كفاءة خطوة التعويم والاقتراض لتوفير السيولة النقدية، وسواء كانت خيارا أو ضرورة، فهناك إغفال لحقيقة أولى تتعلّق بطريقة إدارة الموارد الاقتصادية، قبل الوصول إلى هذه النقطة، حيث تتقاطع الآراء حول سبل العبور من الأزمة.. حقيقة تتعلّق بمنشأ الأزمة، وما يجبر الحكومة في كل مرة للبحث -بأي ثمن- عن توفير الدولار لاستيراد السلع الأساسية، فضلا عن مدفوعات خدمة الدين الأجنبي، ألا وهي سياسة الإنفاق.

وسأحيل قارئ هذا المقال إلى عام 2015، أي ما قبل التعويم الأول، حين شخّص هشام رامز محافظ البنك المركزي نفسه، في ذلك الحين، المشكلة، عبر مداخلة تلفزيونية لفضائية القاهرة والناس، مؤكدا أنها تتعلّق باستخدام الدولار في غير محله؛ وحينها ضرب مثالا واضحا على ذلك بالإشارة إلى مشروع تفريعة قناة السويس الجديدة، مشيرا إلى استنزاف مبالغ طائلة في المشروع، على رأسها استيراد حفارات من الخارج، رغم محاولته، في الوقت نفسه، تجاوز انتقاد توقيت المشروع أو الإنفاق السخيّ عليه.

  • حديث محافظ البنك المركزي السابق هشام رامز عن أزمة الدولار في عام 2015 (دقيقة 11.40)

اليوم، وبينما يُترك المواطنون لمصيرهم مع التعويم الجديد، فضلا عما تستوجبه الموازنة أو الاقتراض من مزيد إجراءات التقشّف، يبدو الترويج لما تقوم به الدولة من "خطوات على الطريق الصحيح"، بمثابة قفزات أخرى في الهواء، ومحاولة بائسة لإعادة اختراع العجلة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.