شعار قسم مدونات

دعاة ومشايخ.. شذوذ "الثقات"

هل هناك دوافع إنسانية أو أخلاقية تشفع لشيخ أو داعية أن يرتدي قناعا تنكريا في حفلة ماجنة ظل إلى وقت قريب يحذر الشباب منها (الجزيرة)

يتنكر البعض ليخادع البسطاء أو ليزيف الحقيقة أو ليخيف الصغار أو لعمل إجرامي، وهلم جرا من أسباب ودوافع المظاهر التنكرية المعروفة عالميا، وكلها دوافع خبيثة مبطنة بالشر والنذالة. لكن السؤال الغريب هل هناك حالات تكون فيها التنكريات فضيلة وعبادة تقرب العبد من الله أو حتى من ذوي السلطان زلفى؟

هل هناك دوافع إنسانية أو أخلاقية تشفع لشيخ أو داعية أو إمام أن يرتدي قناعا تنكريا في حفلة ماجنة ظل إلى وقت قريب يحذر الشباب منها ويعدها من المحرمات أو الشبهات أو ما يخل بمروءة المسلم ويقدح في عدالته وأخلاقه؟

في العقود الماضية اعتاد أخي أن يسعفنا كل مرة بآخر ما نشر في الساحة الدينية من أشرطة "الكاسيت" الوعظة لعدد غير قليل من الوعاظ والدعاة في الزهد والرقائق والعفة والاختلاط والنظر والتقوى وكل ما حرص أولئك الدعاة على أن يغرسوه في عقول الشباب والنشء من الأفكار النقية والمفاهيم السامية والمعاني التربوية والقيم الإسلامية والمثل العليا حتى أحببناهم واتخذناهم قدوات لنا وصاروا فاكهة مجالسنا إعجابا وترديدا لمواعظهم ونصائحهم وأدبياتهم، فاحتشدنا لهم في المساجد، وترقبنا بشغف جديدهم وشكلنا لهم مؤخرا نوافذ وصفحات كنا فيها جمهورهم الغفير، وتكتل كل فريق منا في صف داعية منهم لدرجة أن بعضنا سمى ابنه أو أخاه باسم شخصية من تلك الشخصيات تيمنا بها.

لطالما حثونا على الجهاد بالكلمة أو بالسيف، وساقوا لنا القصص والأحاجي، وابتكروا المشاهد المؤثرة وبكوا وأبكوا حتى ابتلت لحاهم، لطالما وعظونا بالصبر والتقشف والزهد، ونغصوا علينا شغفنا بالحياة على أنها ملعونة ومتاع زائل وفتنة يجب الحذر منها، لطالما صنفوا لنا الدنيا وبغضوها إلينا وحذرونا من الفساد الأخلاقي ومن الركون إلى الظالمين ومناصرة المستبدين، وحثونا على ضرورة ابتعاد المسلم عن الشبهات والأغاني والموسيقى والكثير الكثير مما لا يسعني الآن سرده، لقد كانوا بحق سفينة النجاة لهذه الأمة الغريقة وأملها في هذا اليأس الكبير وضوءها في هذا الزمن الحالك.

ثم ماذا؟

لقد صدق أولئك الأدعياء حين أخبرونا أن هناك مواقف وأحداثا ومنعطفات خطيرة في حياة الإنسان اختبارا لإيمانه وابتلاء لإظهار صبره وتمحيصا لصدق ما يدعيه، وأن الصادقين والأقوياء والمؤمنين حقا هم من يواجهون تلك المحن والاختبارات الشاقة بثبات وصبر ورباطة جأش، فلا يضعفون ولا يهتز إيمانهم ولا يشترون الدنية على حساب دينهم، ولا ينخرطون فيما ينخرط فيه عامة الناس وضعفاؤهم؛ فالمؤمن مظنة الابتلاء تأسيا بالأنبياء والمصلحين على مر التاريخ، فصفحاته حافلة بالمرويات والأساطير التي خلدتهم في أنصع صفحاته، ليس لكثرة أعمالهم الصالحة بقدر ما هو لموقف بطولي عظيم حفروا من خلاله أسماءهم في ذاكرة الحياة حين آثروا القيم والمثل والأجيال على مصالحهم الشخصية ورغباتهم الفردية.

لقد صدقوا في كل ما سردوه لنا، فاشتد ساق الجيل البسيط، غير أن تلك العباءات والعمائم سقطت سقوطا مدويا عند أبسط امتحان، سقط الكثير منهم ولا يزال البعض يسقط الآن وسيسقط العديد غدا بكل تأكيد؛ لأنهم لم يكونوا سوى نقلة عابرة وأصوات هوجاء لا تجاوز موعظهم حناجرهم، لأن ذلك النوع من الوعاظ -ببساطة- لم يكن سوى مرتزق يتخذ من الدين غطاء لمصالح شخصية أو رجل أمن متستر يذيب الأجيال بصوته الآسر في قالب السلطان أو مهرج بائس استغل جهل الأمة وغباءها وانحطاطها في تشكيل شخصية ذات نفوذ ديني، مما يجعله واجهة دينية أو سيدا مطاعا.

لقد كشفت المتغيرات والأحداث الأخيرة في حياة الأمة ولا تزال تكشف زيف أولئك العبيد، عبيد الأنظمة المستبدة، عبيد الخوف والشهوات، وكم أنهم ضعاف أنفس ودعاة سلاطين، يوقعون لبذلتهم ويلمعون وجوههم ويبررون أخطاءهم ويشرعنون لتفاهاتهم وانحطاطهم ويناصرونهم على الظلم والجور والفساد والتبعية، ليس هذا فحسب، بل صار البعض عصا وعظية للظلمة يقمع بها رغبة الشعوب في التحرر والتمدن والحقوق الإنسانية باسم الدين وتحت لافتاته المزيفة.

أعتقد أننا لن نجد غدا ما نواجه به دعاة العلمانية والليبرالية والإلحاد والتحرر الرخيص بعد أن سقط هؤلاء الذين مثلوا لزمن طويل صورة الإسلام للعالم وكانوا هتافه ولسانه وجنده؛ فلقد كانوا أضعف من أن يقووا على حمل تبعات ما وظفوا أنفسهم لأجله، وكانوا أقرب إلى حبائل السلاطين أو ربما كانوا كذلك منذ ظهورهم لكنهم استطاعوا بطريقة أو بأخرى النفاذ من نقد الشعوب التي كانت ولا تزال تحترم الدين وأهله وتعد ذلك من أقدس المقدسات فصارت لحومهم -كما قيل- مسمومة.

إن تلك الوجوه المطاطية لا تصلح للريادة ولا تليق بغير ما وضعت حالها فيه من هوان وذلة واسترقاق، ولن يجد الناس بعد اليوم دافعا لاحترامها أو الثقة بها أو حتى مجرد السماع لهذيانها، هذا غير منا قدمته من صورة سيئة عن الدين وأحدثته من شرخ وانفصام في عقيدة الجيل وفكره ولاسيما في مرحلة مفصيلة خطيرة تمر بها الأمة وكانت أحوج لمواقف بطولية حرة تظل وقودا لها يدفعها لتبني فكرة القيم والأخلاق وقضايا الأمة المصيرية التي فرطت فيها أبواقها المزعومة سالفا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.